الْعَرْضِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا وَصَفَ عَرْضَهَا، فَأَمَّا طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقول تَعَالَى:" مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ" [الرحمن: ٥٤] «١» فَوَصَفَ الْبِطَانَةَ بِأَحْسَنِ مَا يُعْلَمُ مِنَ الزِّينَةِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَكُونُ أَحْسَنَ وَأَتْقَنَ مِنَ الْبَطَائِنِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بِلَادٌ عَرِيضَةٌ، وَفَلَاةٌ عَرِيضَةٌ، أَيْ وَاسِعَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ | عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ «٢» |
وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَامُ جَارٍ عَلَى مَقْطَعِ الْعَرَبِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قُصْوَى حَسُنَتِ الْعِبَارَةُ عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: هَذَا بَحْرٌ، وَلِشَخْصٍ كَبِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: هَذَا جَبَلٌ. وَلَمْ تَقْصِدِ الْآيَةُ تَحْدِيدَ الْعَرْضِ، وَلَكِنْ
«٣» أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا أوسع شي رَأَيْتُمُوهُ. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ: لِقَوْلِهِ" أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُمَا غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ فِي وَقْتِنَا، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى إذا طوى السموات وَالْأَرْضَ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَيْثُ شَاءَ، لِأَنَّهُمَا دَارَ جَزَاءٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَخُلِقَتَا بَعْدَ التَّكْلِيفِ فِي وَقْتِ الْجَزَاءِ، لِئَلَّا تَجْتَمِعَ دَارُ التَّكْلِيفِ وَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: الْجَنَّةُ يُزَادُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا مُتَعَلَّقٌ لِمُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ ابْنِ فُورَكَ" يُزَادُ فِيهَا" إِشَارَةٌ إِلَى مَوْجُودٍ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ فِي الزِّيَادَةِ. قُلْتُ: صَدَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا قَالَ: وإذا كانت السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْكُرْسِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَالْجَنَّةُ الْآنَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ الْعَرْشُ سَقْفُهَا، حَسْبَ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّقْفَ يَحْتَوِي عَلَى مَا تَحْتَهُ وَيَزِيدُ. وَإِذَا كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْحَلْقَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَدِّرُهُ وَيَعْلَمُ طُولَهُ وَعَرْضَهُ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِقُدْرَتِهِ
«٤»، وَلَا غَايَةَ لِسَعَةِ مملكته، سبحانه وتعالى.