فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَجَلَّدَ حَتَّى قُتِلَ، وَمِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَبَاشَرَ الْقِتَالَ وَقَالَ: إِيهًا إِنَّهَا رِيحُ الْجَنَّةِ! إِنِّي لَأَجِدُهَا، وَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا عَرَفْنَاهُ إِلَّا بِبَنَانِهِ وَوَجَدْنَا فِيهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ جِرَاحَةً. وَفِيهِ أَمْثَالِهِ نَزَلَ" رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" [الْأَحْزَابِ: ٢٣] «١». فَالْآيَةُ عِتَابٌ فِي حَقِّ مَنِ انْهَزَمَ، لَا سِيَّمَا وَكَانَ مِنْهُمْ حَمْلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي. وَتَمَنِّي الْمَوْتِ يَرْجِعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ، لَا إِلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ وَلَا يَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ، فَيَسْأَلُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قَالَ الأخفش: هو تكرير بمعنى التأكيد لِقَوْلِهِ:" فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ" مِثْلَ" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" [الانعام: ٣٨] «٢». وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ بُصَرَاءُ لَيْسَ فِي أَعْيُنِكُمْ عِلَلٌ، [كَمَا] «٣» تَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَيْسَ فِي عَيْنَيْكَ عِلَّةٌ، أَيْ فَقَدْ رَأَيْتُهُ رؤية حقيقة، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأنتم تنظرون فلم انهزمتم؟.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ انْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ الشَّيْطَانُ: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ. قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أُصِيبَ أَلَا تَمْضُونَ عَلَى مَا مضى عليه نبيكم حتى

(١). راجع ج ١٤ ص ١٥٨.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٩.
(٣). في ب ود وهـ.


الصفحة التالية
Icon