يَقُولُونَ: إِنْ أَوْصَى الرَّجُلُ لِجِيرَانِهِ أُعْطِيَ اللَّصِيقُ وَغَيْرُهُ، إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ فَارَقَ عَوَامَّ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ: لَا يُعْطَى إِلَّا اللَّصِيقُ وَحْدَهُ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْجِيرَةِ، فَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وقال ابْنُ شِهَابٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني نَزَلْتُ مَحَلَّةَ قَوْمٍ وَإِنَّ أَقْرَبَهُمْ إِلَيَّ جِوَارًا أشدهم لي أدى، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا يَصِيحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ: أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ «١». وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَنْ سَمِعَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فَهُوَ جَارُ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَنْ سَاكَنَ رَجُلًا فِي مَحَلَّةٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَهُوَ جَارٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا «٢») فَجَعَلَ تَعَالَى اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ جِوَارًا. وَالْجِيرَةُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَلْصَقُ مِنْ بَعْضٍ، أَدْنَاهَا الزَّوْجَةُ، كَمَا قَالَ:
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ «٣»
السَّابِعَةُ- وَمِنْ إِكْرَامِ الْجَارِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ). فَحَضَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، لِمَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَحَبَّةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَإِنَّ الْجَارَ قَدْ يَتَأَذَّى بِقُتَارِ «٤» قِدْرِ جَارِهِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ فَتَهِيجُ مِنْ ضُعَفَائِهِمُ الشَّهْوَةُ، وَيَعْظُمُ عَلَى الْقَائِمِ عَلَيْهِمُ الْأَلَمُ وَالْكُلْفَةُ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْقَائِمُ ضَعِيفًا أَوْ أَرْمَلَةً فَتَعْظُمُ الْمَشَقَّةُ وَيَشْتَدُّ مِنْهُمُ الْأَلَمُ وَالْحَسْرَةُ. وَهَذِهِ كَانَتْ عُقُوبَةَ يَعْقُوبَ فِي فِرَاقِ يُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِيمَا قِيلَ. وَكُلُّ هَذَا يَنْدَفِعُ بِتَشْرِيكِهِمْ فِي شي مِنَ الطَّبِيخِ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَضَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَارَ الْقَرِيبَ بِالْهَدِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَدْخُلُ دَارَ جَارِهِ وَمَا يَخْرُجُ منها، فإذا رأى ذلك أحب
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٤٥.
(٣). هذا صدر بيت للأعشى، وعجزه:
كذاك أمور الناس غاد وطارقة
(٤). القتار (بضم القاف): ريح القدر والشواء ونحوهما.