قُلْتُ: حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى يَنْتَسِبُونَ عَلَى الْأَمَانِ، أَيْ إِنَّ الْمُنْتَسِبَ إِلَى أَهْلِ الْأَمَانِ آمِنٌ إِذَا أَمِنَ الْكُلُّ مِنْهُمْ، لَا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَقِيلَ: بَنُو مُدْلِجٍ. عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَقْدٌ، وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ وَسُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ. وَقِيلَ: خُزَاعَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ بَنِي بَكْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ، كَانُوا فِي الصُّلْحِ وَالْهُدْنَةِ الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُوَادَعَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي (الْأَنْفَالِ «١» وَبَرَاءَةٌ «٢») إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أَيْ ضَاقَتْ. وَقَالَ لَبِيدٌ:

أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصُرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا «٣»
أَيْ تَضِيقُ صُدُورُهُمْ مِنْ طُولِ هَذِهِ النَّخْلَةِ، وَمِنْهُ الْحَصْرُ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ ضِيقُ الْكَلَامِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ. وَالْحَصِرُ الْكَتُومُ لِلسِّرِّ، قَالَ جَرِيرٌ:
وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا
وَمَعْنَى (حَصِرَتْ) قَدْ حَصِرَتْ فَأُضْمِرَتْ قَدْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُضْمَرِ المرفوع في (جاؤُكُمْ) كَمَا تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خبر قال الزَّجَّاجُ. أَيْ جَاءُوكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ (حَصِرَتْ) بَدَلًا مِنْ (جاؤُكُمْ) وقيل: (حَصِرَتْ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ لِقَوْمٍ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) لَيْسَ فيه (أَوْ جاؤُكُمْ «٤»). وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ أَوْ جَاءُوكُمْ رِجَالًا أَوْ قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، فَهِيَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) نصب على
(١). راجع ج ٨ ص ٥٥.
(٢). راجع ج ٨ ص ٧١ فما بعدها.
(٣). جرام (جمع جارم) وهو الذي يصرم التمر ويجذه.
(٤). كذا في الأصول وابن عطية. والذي في البحر والدر المصون والكشاف والآلوسي: (جاءوكم بغير أو).


الصفحة التالية
Icon