قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ، وَالْقَاهِرُ الْغَالِبُ، وَأُقْهِرَ الرَّجُلُ إِذَا صُيِّرَ بِحَالِ الْمَقْهُورِ الذَّلِيلِ، قَالَ الشَّاعِرُ «١»:

تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ جِذَاعُهُ فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا
وَقُهِرَ غُلِبَ. وَمَعْنَى (فَوْقَ عِبادِهِ) فَوْقِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ لَا فَوْقِيَّةَ مَكَانٍ، كَمَا تَقُولُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَفِي الْقَهْرِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فِي أَمْرِهِ (الْخَبِيرُ) بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ، أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَلَفْظُ (شَيْءٍ) هُنَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً أَيِ انْفِرَادُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُ الْبَرَاهِينِ عَلَى تَوْحِيدِهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَعْظَمُ، فَهُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَلَى أَنِّي قَدْ بَلَّغْتُكُمْ وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة. قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أَيْ وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ بِنُبُوَّتِي. (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) يَا أَهْلَ مَكَّةَ. (وَمَنْ بَلَغَ) أَيْ وَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ. فَحَذَفَ (الْهَاءَ) لِطُولِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ. وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ وَلَا مُتَعَبَّدٍ. وَتَبْلِيغُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَأْمُورٌ بِهِمَا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِمَا، فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" «٢»] المائدة: ٦٧]. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (. وَفِي الْخَبَرِ أَيْضًا، مَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ أَخَذَ بِهِ أَوْ تَرَكَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا قَدْ رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) مُسَمَّى الْفَاعِلِ، وهو معنى قراءة الجماعة. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى) اسْتِفْهَامُ توبيخ
(١). هو المخبل السعدي يهجو الزبرقان وقومه وجذاع الرجل قومه.
(٢). راجع ص ٢٤٢ من هذا الجزء.


الصفحة التالية
Icon