الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يُرِيدُ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا (إِلَى هَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ «١». وَالْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا اعْتَدَى فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أي بني، سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ فِي مُحَالٍ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُفَقَّرَةً «٢» وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً قَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ وَيَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. كَمَا تقدم في البقرة بيانه «٣».
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الصَّحِيحِ من الأقوال. وقال الضحاك: معناه لا تعوروا «٤» الْمَاءَ الْمَعِينَ، وَلَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الْمُثْمِرَ ضِرَارًا. وَقَدْ وَرَدَ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ قِيلَ: تِجَارَةُ الْحُكَّامِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُرَادُ وَلَا تُشْرِكُوا، فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْهَرْجِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمْرٌ بِلُزُومِ الشَّرَائِعِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، وَتَقْرِيرِ «٥»
(٢). في ع: مقفاه.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٠٨.
(٤). عورت عيون المياه: إذا دفنها وسددتها.
(٥). في ز: تقدير.