فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ" الْآيَةَ. أَصْلٌ فِي سُقُوطُ التَّكْلِيفِ عن العاجز، فكل من عجز عن شي سَقَطَ عَنْهُ، فَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ فِعْلٌ، وَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ غُرْمٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَجْزِ مِنْ جِهَةِ الْقُوَّةِ أَوِ الْعَجْزِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" «١» [البقرة: ٢٨٦] وَقَوْلُهُ:" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ «٢» حَرَجٌ" [النور: ٦١]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ «٣» أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ). فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهَا أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَعْذُورِينَ، وَهُمْ قَوْمٌ عُرِفَ عُذْرُهُمْ كَأَرْبَابِ الزَّمَانَةِ وَالْهَرَمِ وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَأَقْوَامٍ لَمْ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَرَجٌ. (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) إِذَا عَرَفُوا الْحَقَّ وَأَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَبْغَضُوا أَعْدَاءَهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَعَذَرَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ، وَمَا صَبَرَتِ الْقُلُوبُ، فَخَرَجَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى أُحُدٍ وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى اللِّوَاءَ فَأَخَذَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَضَرَبَ يَدَهُ الَّتِي فِيهَا اللِّوَاءُ فَقَطَعَهَا، فَأَمْسَكَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى فَضَرَبَ الْيَدَ الْأُخْرَى فَأَمْسَكَهُ بِصَدْرِهِ وَقَرَأَ" وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ" «٤» [آل عمران: ١٤٤]. هَذِهِ عَزَائِمُ الْقَوْمِ. وَالْحَقُّ يَقُولُ:" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ" [النور: ٦١] وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ." وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ" [النور: ٦١] وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ مِنْ نُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ أَعْرَجُ وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْجَيْشِ. قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ) فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَحْفِرَنَّ «٥» بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، إِلَى أَمْثَالِهِمْ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى «٦» بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصف.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣١١ فما بعد.
(٣). في هـ وك وى: بعدكم.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٢١.
(٥). يقال: حفر الطريق إذا أثر فيها بمشيه عليها.
(٦). أي يمشى بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله.