الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أَيْ خَرَجَ. وَسَلَخْتُ الشَّهْرَ إِذَا صِرْتُ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِهِ، تَسْلَخُهُ سَلْخًا وَسُلُوخًا بِمَعْنَى خَرَجْتَ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَلْتُ قَبْلَهُ «١» كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي
وَانْسَلَخَ الشَّهْرُ وَانْسَلَخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ الْمُقْبِلِ. وَسَلَخَتِ الْمَرْأَةُ دِرْعَهَا نَزَعَتْهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ" «٢» [يس: ٣٧]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسر ها أَخْضَرَ. وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: قِيلَ هِيَ الْأَشْهُرُ الْمَعْرُوفَةُ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. قَالَ الْأَصَمُّ: أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَا عَقْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَوْجَبَ أَنْ يُمْسَكَ عَنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى يَنْسَلِخَ الْحُرُمُ، وَهُوَ مُدَّةُ خَمْسِينَ يَوْمًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ النِّدَاءَ كَانَ بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. وَقِيلَ: شُهُورُ الْعَهْدِ أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ لَهَا حُرُمٌ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّضَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «٣» مِنَ امْرَأَةٍ وَرَاهِبٍ وَصَبِيٍّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ" «٤». إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ «٥»، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْعَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ قوله:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" يَقْتَضِي جَوَازَ قَتْلِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَبِالْحِجَارَةِ وَبِالرَّمْيِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ، تَعَلَّقَ بِعُمُومِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ إِحْرَاقُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيْلًا إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى عُمُومِ اللَّفْظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(١). في اللسان والبحر المحيط: (أهللت مثله).
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦. [..... ]
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٤٨.
(٤). راجع ص ١٠٩ فما بعد من هذا الجزء.
(٥). في ب وج وز وك وهـ: للكتابين.


الصفحة التالية
Icon