قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقَم! أنا الأرقم! فأدركوه وقد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعتَ بنفسك؟ فقال: إني واللهِ أعلمُ من معاني الشعر ما لا تعملون".
إلى هذا النوع من الإحساس الخفيّ قد قصد الجرجاني، يأْنَقُ لها القارئ أو السامع، وتأخذهما الأريحية والانسلاخ من واقع قلق مضطرب إلى حيث الخفقان الملائكي.
لا أظن أن هذا الواقع، خاص بعصر الجرجاني، وذيَّاك الإحساس الفردوسيَّ قد اعترى المؤلف وحده، فقد عانتْ منه مختلف العصور والأزمان، وشكا منه عباقرةُ الأدب واللغة، فعبَّروا عن ذلك بكثير من المرارة.. ألم يشِعْ مثل ذلك في زمن أبي نؤاس، فقال بيته الشهير:
فقلْ لمن يدْعي في العِلْمِ فلسفةً | حفِظْت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياء |
أَذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهيْلَه | فأعلمُهُمْ فَدْمٌ وأحْزَمُهم وَغْدُ |
وأكرمُهم كلبٌ وأبصرُهُمْ عَمٍ | وأسهَدُهمْ فَهْدٌ وأشجعهُمْ قِرْدُ |