البقرة (٦)
حقيقة المفلحين وخصائصِهم هذا وفي بيان اختصاصِ المتقين نبيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة حسبما أُشيرَ إليهِ في تضاعيفِ تفسير الآية الكريمة من الترغيب في افتفاء أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه والله وليُّ الهداية والتوفيق
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالَى ﴿إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ﴾ لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب والتبايُن في الغرض فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله أو مفصولاً عنه فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام المتقدم فهو من مستتبِعاته لا محالة وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كل صعب وذلول وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاته وإن من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها كإنني ولعلني ونظائرهما وإعطاء معانيه والمتعدى خاصةً في الدخول على اسمين ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها فتعين إعمالُ الحرف وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه قال المبّرِد قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه وإن عبدَ اللَّه القائم جوابُ منكرٍ لقيامه وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود أو للجنس وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ الخ والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر ومنه قيل للزراع والليلِ كافرٌ قال تعالى ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ﴾ وعليه قول لبيد... في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها... ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيء الرسول ﷺ به وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب فإن مَنْ صدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يكاد يجترئ على أمثال ذلك إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار