الأنعام آية ٥٤
مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الكمال والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ثم قُدّم على الفعلِ لإفادة القصِر المفيدِ لعدم القصور فقط واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً واللام في قوله تعالى ﴿لّيَقُولواْ﴾ للعاقبة أي ليقول البعضُ الأولين مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً ﴿أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا﴾ بأن وفّقهم لإصابة الحق ولما يصعجهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيدُ والفقراء وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى وقولُه تعالى ﴿أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى
﴿وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا﴾ هم الذين نُهيَ عن طردهم وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عزَّ وجلَّ كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى ﴿فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ﴾ أمرٌ بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم وقيل بتبليغ سلامِه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأَهم بالسلام وقوله تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ ما أصلا تبشير لهم بسَعَة رحمتِه تعالى وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة عن المكاره وقبولِه التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا إنا أصبْنا ذُنوباً عظاما فلم يرد على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه


الصفحة التالية
Icon