الأعراف آية ٩
الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن وقيلَ إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من إناء الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا يعد في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالم المثال على سورة اللبنِ كما لا يَخْفى عَلَى مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وزبالأعمال السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل إن المكلّف يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجور فيكفيه حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها وإما منكِرٌ له فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض الخصوصيات راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن أجيب بأنه ينكشف الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدُّنيا بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقة المستتبِعةِ لصفاته ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى أعلم ﴿فَمَن ثَقُلَتْ موازينه﴾ تفصيلٌ للأحكام المترتبة على الوزن والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخَر أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة وعن الحسن البصري وحُقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يقل وحُقّ لميزانٍ توضع فيه السيئاتُ أن يخِفّ ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بثقل الميزانِ والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ الموازينِ لذلك وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ والشرف ﴿هُمْ المفلحون﴾ الفائزون بالنجاة والثوابِ وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحون للدِلالة على أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم
﴿وَمَنْ خَفَّتْ موازينه﴾ أي موازينُ أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهب أعْمالُه السيئة ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر آنفاً في نظيره وهو مبتدأٌ خبره


الصفحة التالية
Icon