المكابرِ اللَّجوجِ ودأبُ المُفحَمِ المحجوج
سورة يونس آية (٣)
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شئون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبيرِ ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقولِه تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وقوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض إلى قوله تعالى وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو
﴿الله الذى خلق السماوات والارض﴾ وما فيهما من أصول الكائنات
﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرض ولا سماء وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرشُ﴾ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشببه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابير منه تنزل وقيل هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار وهذا بيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانه بعد بيان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام
﴿يُدَبّرُ الامر﴾ التدبيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ ههنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته ويهييء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة والجملة في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير استوى وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبنيّةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على تجددِ التدبيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل
﴿مَا مِن شَفِيعٍ﴾