سورة هود (٥)
العذابِ وهو تقريرٌ لما سلف من كِبر اليوم وتعليلٌ للخوف ولمّا أُلقيَ إليهم فحوى الكتابِ على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يُساقَ من الترغيب والترهيبِ وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمِعوا مثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صمُّ الجبالِ هل قابلوه بالإقبال أم تمادَوا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ فقيل مصدّراً بكلمة التنبيهِ إشعاراً بأن ما يعقُبها من هَناتهم أمرٌ يجب أن يُفهم ويتعجَّبَ منه
﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ يزْورُّون عن الحق وينحرفون عنه أي يستمرون على ما كانُوا عليهِ من التولّي والإعراضِ لأن مَنْ أعرض عن شيء ثنى عنه صدرَه وطوى عنه كشحَه وهذا معنىً جزْلٌ مناسبٌ لما سبق وقد نحا نحوَه العلامةُ الزَّمَخْشَريُّ ولكن حيث لم يصلُح التولي سببا للاستخفاء في قولِه عزَّ وجلَّ
﴿لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ التَجأ إلى إضمار الإرادةِ حيث قال ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يُطْلِعَ رسولَه والمؤمنين على إعراضهم وجعلُه في قَوْد المعنى إليه من قبيل الإضمار قي قوله تعالى اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياقَ الذهنِ إلى توسيط الإرادةِ بين ثنْيِ الصدورِ وبين الاستخفاءِ ليس كانسياقِه إلى توسيط الضربِ بين الأمرِ به وبين الانفلاقِ ولعل الأظهرَ أن معناه يعطِفون صدورَهم عَلى ما فَيها من الكفر والإعراضِ عن الحق وعداوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تُعطف الثيابَ عَلى ما فَيها من الأشياء المستورةِ وإنما لم يذكرْ ذلك استهجاناً بذكره أو إيماءً إلى أن ظهورَه مغنٍ عن ذكره أو ليذهبَ ذهنُ السامعِ إلى كل ما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ فيدخُل فيه ما ذُكر من تولّيهم عن الحق الذي أُلقيَ إليهم دخولاً أولياً فحينئذ يظهر وجهُ كونِ ذلك سبباً للاستخفاء ويؤيده ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنها نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ وكان رجلاً حلوَ المنطِق حسنَ السياقِ للحديث يُظهر لرسول الله ﷺ المحبةَ ويُضمِرُ في قلبه ما يضادُّها وقال ابن شداد أنَّها نزلتْ في بعضِ المنافقين كان إذا مرَّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ثنى صدرَه وظهرَه وطأطأ رأسَه وغطَّى وجهَه كيلا يراه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رآه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يمكِنْه التخلّفُ عن حضور مجلِسه والمصاحبةِ معه وربما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق وقرئ يَثْنَوْني صدورُهم بالياء والتاء من اثنونى افعوعل من الثَنْي كاحلولي من الحلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما لتثنونى وقرئ تثنون وأصله تثنونن من تفْعَوعِلُ من الثِّنِّ وهو ما هشّ من الكلأ وضعُف يريد مطاوعةَ صدروهم للثني كما يثنى الهشُّ من النبات أو أراد ضعفَ إيمانِهم ورَخاوةَ قلوبِهم وقرئ تثنن من اثنانّ افعالَّ منه ثم همزٌ كما قيل ابيأضت وادهامت وقرئ تثنوي بوزن ترعوي
﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ أي يتغطَّوْن بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثّرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذٍ حديثُ النفس عادةً وقيل كان الرجلُ من الكفار يدخُل بيته ويرخى ستره ويحى ظهره