وإن كان كاذبا حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمرٌ جارٍ على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب والتعبيرُ عن ظهور الصدقِ بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهورُ من أن مدلولَ الخبر هو الصدقُ والكذبُ احتمالٌ عقلي فظهورُ صدقِه إنما هو تبيّنُ ذلك المدلولِ وانقطاعُ احتمالِ نقيضِه بعد ما كان محتمِلاً له احتمالاً عقلياً وأما كذبُه فأمرٌ حادثٌ لا دِلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكونَ ظهورُه تبيّناً له بل هو نقيضٌ لمدلوله فما يتعلق به يكون عِلْماً مستأنفاً وإسنادُه إلى ضميره ﷺ لا إلى المعلومين ببناء الفعلِ للمفعول مع إسناد التبيّنِ إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه ﷺ بهم ومؤاخذتُهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذةَ عليهم ومن لم ينتبه لهذا قال حتى يتبين لك مَنْ صدق في عذره ممن كذَب فيه وإسنادُ التبيُّنِ إلى الأولين وتعليقُ العلمِ بالآخَرين مع أن مدارَ الإسنادِ والتعلقِ أولا وبالذات هو وصفُ الصدقِ والكذب كما أشير إليه لما أن المقصِدَ هو العلمُ بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورَين ومعاملتِهما بحسب استحقاقِهما لا العلمُ بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامِهما بموصوفيهما هذا وفي تصدير فاتحةِ الخطابِ ببشارة العفوِ دون ما يوهم العتابَ من مراعاة جانبه ﷺ وتعهده بحسن المفاوضةِ ولُطفِ المراجعةِ ما لا يخفى على أولي الألباب قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطفِ بدأ بالعفو قبل ذكر المعفوّ ولقد أخطأ وأساء الأدبَ وبئسما فعل فيما قال وكتب مَنْ زعم أن الكلام كنايةٌ عن الجناية وأن معناه أخطأتَ وبئسما فعلتَ هبْ أنه كنايةٌ أليس إيثارُها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيفِ في العتاب وهب أن العفوَ مستلزِمٌ للخطأ فهل هو مستلزمٌ لكونه من القبح واستتباعِ اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبةَ من المشافهة بالسوء أو يسوِّغُ إنشاءَ الاستقباحِ بكلمة بئسما المنبئةِ عن بلوغِ القبحِ إلى رتبة يتُعجَّب منها ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحةٌ للدين أو منفعةٌ للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عز وجل لَوْ خَرَجُواْ الخ وقد كرِهه سبحانه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم الآية نعم كان الأولى تأخيرُ الإذن حتى يظهر كذبُهم آثرَ ذي أثيرٍ ويفتضحوا على رءوس الأشهادِ ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعةِ ولا يتسنّى لهم الابتهاجُ فيما بينهم بأنهم غروه ﷺ وأرضَوْه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيشٌ ولا قرت لهم عينٌ إذ لم يكونوا على أمن واطمئنانٍ بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان
سورة براءة آية (٤٤)
﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر﴾ تنبيهٌ على أنه كان ينبغي أن يُستدل باستئذانهم على حالهم ولا يُؤذَنَ لهم أي ليس من عادة المؤمنين أي يستأذنوك في
﴿أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ﴾ وإن الخُلَّصَ منهم يبادرون إليه من غير توقفٍ على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مَئِنّةً للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم وقيل المستأذَنُ فيه محذوفٌ ومعنى قوله تعالى أَن يجاهدوا كراهةَ أن يجاهدوا ثم