مريم ٢٧ ٢٩ أي ذلك الرطبَ وماءَ السَّريِّ أو من الرطب وعصيرِه ﴿وَقَرّى عَيْناً﴾ وطِيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك فإنه تعالى قد نزّه ساحتَك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصريةِ والمركباتِ النباتية ما يخرِق العاداتِ التكوينيةَ ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرِك وقرئ وقِرّي بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقُه من القرار فإن العينَ إذا رأت ما يسرّ النفسَ سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القَرّ فإن دمعةَ السرور باردةٌ ودمعةَ الحُزن حارة ولذلك يقال قُرّة العين وسُخْنةُ العين للمحبوب والمكروه ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ أي آدمياً كائناً من كان وقرئ تَرئِنّ على لغة من يقول لبّأْتُ بالحج لما بين الهمزة والياءِ من التآخي ﴿فَقُولِى﴾ له إن استنطقك ﴿إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ أي صمتاً وقد قرئ كذلك أو صياماً وكان صيامُهم بالسكوت ﴿فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ أي بعد أن أخبرتُكم بنذري وإنما أكلم الملائكةَ وأناجي ربي وقيل أُمِرت بأن تخبرَ بنذرها بالإشارة وهو الأظهرُ قال الفراء العربُ تسمِّي كلَّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريقٍ وصَل ما لم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلةِ السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نصٌّ قاطعٌ في قطع الطعن
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا﴾ أي جائتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفسها ﴿تَحْمِلُهُ﴾ أي حاملةً له ﴿قَالُواْ﴾ مؤنبين لها ﴿يا مريم لَقَدْ جِئْتَ﴾ أي فعلت ﴿شَيْئاً فَرِيّاً﴾ أي عظيماً بديعاً منكراً من فرَى الجلدَ أي قطعه أو جئتِ مجيئاً عجيباً عبر عنه بالشيء تحقيقاً للاستغراب
﴿يا أخت هارون﴾ استئناف لتجديد التعبير وتأكيدِ التوبيخ عنَوا به هرون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانت مِن أعقاب مَن كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجلٌ صالح أو طالح كان في زمانهم شبّهوها به أي كنت عندنا مثله في الصلاح أو شتموها به ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ تقريرٌ لكون ما جاءت به فِرّياً منكراً وتنبيهٌ على أن ارتكابَ الفواحش من أولاد الصالحين أفحشُ
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى عيسى عليه السلام أنْ كلّموه والظاهر أنها حينئذ بينت نذرَها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس حسبما أُمرت ففيه دلالةٌ على أن المأمورَ به بيانُ نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمعُ بينهما مما لا عهدَ به ﴿قَالُواْ﴾ منكرين لجوابها ﴿كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً﴾ ولم نعهَد فيما سلف صبياً يكلمه عاقل وقيل كان لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهمٍ صالحٍ لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مَسوقٌ للتعجب وقيل هي زائدة والظرفُ صلة مَنْ وصبياً حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو هي تامة أو دائمة كما في قوله تعالى وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً


الصفحة التالية
Icon