الرعد ٣ أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته وقرىء عُمُد على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول إيراد صيغةِ الجمع لجمع السموات لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد ﴿تَرَوْنَهَا﴾ استئنافٌ استُشهد به على ما ذكرَ من رفع السموات بغير عمد وقيل صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى ﴿ثُمَّ استوى﴾ أي استولى ﴿عَلَى العرش﴾ بالحفظ والتدبير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف وأياما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها ﴿كُلٌّ﴾ من الشمس والقمر ﴿يَجْرِى﴾ حسبما أريد منها ﴿لاِجَلٍ مُّسَمًّى﴾ لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر فان كل منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوةِ إلى الفعلِ أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بيانٌ لحكم تسخيرهما ﴿يُدَبّرُ﴾ بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدرُ حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحة ﴿الأمر﴾ الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربو بيته ﴿يفصل الآيات﴾ الدلالةِ عَلى كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذُكرَ من الأفعالِ العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبيرِ والتقديرِ فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله وَسَخَّرَ الشمس والقمر من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيها أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله الله خبراً بعد خبر والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق... إن الذي سمك السماءَ بنى لنا...
بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول...
﴿لَعَلَّكُمْ﴾ عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها ﴿بِلِقَاء رَبّكُمْ﴾ بملاقاته للجزاء ﴿تُوقِنُونَ﴾ فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شىء قديرٌ وأن لهذه التدبيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بد من وصولها وقد بُيّنتْ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاء المكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال
(وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض) أي بسطها طولاً وعَرضاً قال الأصم المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ﴾ أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها


الصفحة التالية
Icon