الحجر ٣ من عند الله تعالى (لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى وتلك الوَدادةُ يومَ القيامةِ أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار وروى أبو موسى الأشعرى رضيَ الله عنه أنَّه قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كانوا مسلمين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سَننِ العرب فيما يقصِدون به الإفراطَ فيما يعكسون عنه تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندي أو لا تعدمُ عندي فارسا وعنده مقانب جمّةٌ من الكتائب وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فُرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً عن تكثير القليل وهذه الطريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ فيُصار إليه هضماً للحق فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كلِّ آنٍ من آنات اليومِ الآخر وأن ذلك منَ الظهورِ بحيثُ لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعد الاعتدادِ بما هُم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ الآية أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه فكيف إذا كان متيقن الحمد كما في قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندِم الإنسان على ما فعل فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يُرجى فيهِ الندمُ أو يقِلّ وقوعُه فيه فكيف بقطعيّ الوقوع وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ فكيف كثيرُه والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودّونه كل آن وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأى عن توفية المقام حقَّه
(ذَرْهُمْ) دعْهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيلَ إلى إراعوائهم عن ذلك وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه (يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ) بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل


الصفحة التالية
Icon