سورة النور (٣٢) الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ حسبما تقضيه الحكمةُ والمصلحةُ
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ إرشادٌ للعاجزينَ عن مبادِي النِّكاحِ وأسبابِها إلى ما هُو أولى لهم وأحْرى بهم بعدَ بيانِ جواز منا كحة الفُقراءِ أي ليجتهدْ في العفة وقمع شهوة ﴿الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي أسباب نكاح أولا يتمكَّنون ممَّا يُنكح به من المالِ ﴿حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ عدةٌ كريمة بالتفضل عليه بالغِنى ولطفٌ لهم في استعفافِهم وتقويةٌ لقلوبهم وإيذانٌ بأنَّ فضلَه تعالى أولى بالإعفاءِ وأدنى من الصُّلحاءِ ﴿والذين يبتغون الكتاب﴾ بعد ما أمرَ بإنكاحِ صَالحي المماليك الأحقَّاءِ بالإنكاح أمرَ بكتابة من ستحقها منهم والكتابُ مصدر كاتبَ كالمُكاتبة أي الذين يطلبون المكاتبة ﴿من ما مَلَكَتْ أيمانكم﴾ عبداً كان أو أمةً وهي أنْ يقولَ المولى لمملوكه كاتبتُك على كذا درهماً تؤدِّيه إليَّ وتعتق ويقول المملوكُ قبلتُه أو نحوُ ذلك فإنْ أدَّاه إليه عتق قالوا معناه وكتبت لك على نفسي أنْ تعتق منِّي إذا وفَّيت بالمال وكتبت لي على نفسك أنْ تفيَ بذلك أو كتبت عليك الوفاءَ بالمال وكتبتُ عليَّ العتقَ عنده والتَّحقيقُ أنَّ المكاتبةَ اسمٌ للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العُقودِ الشَّرعيَّةِ المُنعقدةِ بالإيجاب والقبولِ ولا ريب في أن ذلك لا يصدرُ حقيقةً إلا من المتعاقدين وليس وظيفةُ كلِّ منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه مُعرباً عمَّا يتمُّ من قِبله ويصدر عنه من الفعلِ الخاصِّ به من غير تعرُّضٍ لما يتمُّ من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاصِّ به إلاَّ أنَّ كلاًّ من ذينكَ الفعلينِ لما كان بحيثُ لا يمكن تحقُّقه في نفسهِ إلا منوطاً بتحقُّقِ الآخرِ ضرورةَ أنَّ التزامَ العتقِ بمقابلة البدلِ من جهة المولى لا يُتصور تحقُّقه إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أنَّ عقدَ البيع الذي هو تمليك المَبيعِ بالثَّمن من جهة البائعِ لا يُمكن تحققه بتملُّكه به من جانب المشتري لم يكن بدمن تضمينِ أحدهِما الآخر وقت الإنشاء فكما أنَّ قول البائع بعتُ إنشاءٌ لعقد البيع على معنى أنَّه إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله أصالةً ولما يتمُّ من قبل المُشتري ضمناً إيقاعاً متوقفاً على رأيهِ توقفاً شبيهاً بتوقُّفِ عقد الفضوليِّ كذلك قولُ المولى كاتبتُك على كذا إنشاء لعقدِ الكتابةِ أي إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله من التزام العتقِ بمقابلة البدلِ أصالةً ولما يتمُّ من قبلِ العبدِ من التزامِ البدلِ ضمناً إيقاعاً متوقِّفاً على قبوله فإذا قُبل تمَّ العقدُ ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء خبرُه ﴿فكاتبوهم﴾ والفاءُ لتضمُّنهِ معنى الشَّرطِ أو النَّصبُ على أنه مفعول لمضمر يفسِّره هذا والأمر فيه للنَّدب لأنَّ الكتابة عقدٌ يتضمَّن الإرفاقَ فلا تجبُ كغيرِها ويجوزُ حالاً ومؤجَّلاً ومنجَّماً وغيرَ منجَّمٍ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله لا يجوزُ إلا مؤجَّلاً منهما وقد فُصل في موضعه ﴿إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ أي أمانةً ورُشداً وقدرة على أداء البدلِ بتحصيله من وجه حلال وصلاحها لا يؤذي النَّاسَ بعد العتق وإطلاق العنان ﴿وآتوهم مِن مَّالِ الله الذى آتاكم﴾ أمر للوالي ببذل شيءٍ من أموالهم وفي حكمه حطُّ شيء


الصفحة التالية
Icon