سورة الفرقان ٣ السطان القاهرِ والاستيلاءِ الباهرِ عليهما المستلزمانِ للقدرة التَّامَّةِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهمَا وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمَصَالحِ ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها أو على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه وما بينهُمَا ليس بأجنبيَ لأنَّه من تمامِ صلتِه ومعلوميةُ مضمونِه للكَفرة مما لا ريبَ فيه لقولِه تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ونظائرِه أو مدحٌ له تعالى بالرفع أو بالنصر ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ كما يزعمُ الذين يقولون في حق المسيح ولملائكة ما يقولُون فسبحان الله عمَّا يصفون وهو معطوفٌ على ما قبله من الجملةِ الظَّرفيةِ ونظمه في سلك الصِّلةِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَهُ من الوضوحِ والظهورِ بحيث لا يكاد يجهله جاهلٌ لا سيَّما بعد تقرير ما قبله ﴿وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك﴾ أي مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ وهو أيضاً عطفٌ على الصِّلةِ وإفرادُه بالذِّكر مع أنَّ ما ذُكر من اختصاص ملكِهما به تعالى مستلزمٌ له قطعاً للتَّصريح ببُطلان زعم الثَّنويَّةِ القائلينِ بتعددِ الآلهةِ والدَّرءِ في نحورِهم وتوسيطُ نفيِ اتِّخاذِ الولدِ بينهُما للتنبيهِ على استقلالِه وأصالتِه والاحترازِ عن توهُّم كونِه تتمة للأوَّلِ ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء﴾ أي أحدثَ كلَّ موجودٍ من الموجوداتِ إحداثاً جارياً على سَنن التَّقديرِ حسبما اقتضتْهُ إرادتُه المبنيَّةُ على الحكم البالغةِ بأنْ خلقَ كُلاًّ منها من موادَّ مخصوصةٍ على صورٍ معينةٍ ورتَّب فيه قُوى وخواصَّ مختلفةَ الآثارِ والأحكامِ ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ أي هيَّأه لما أرادَ به من الخصائص والأفعالِ اللاَّئقةِ به ﴿تَقْدِيراً﴾ بديعاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُبلغ كُنهُه كتهيئة الإنسانِ للفهمِ والإدراكِ والنَّظرِ والتَّدبرِ في أمور المعاشِ والمعادِ واستنباط الصائع المتنوع ومزاولةِ الأعمالِ المختلفةِ وهكذا أحوالُ سائرِ الأنواعِ وقيل أُريد بالخَلْقِ مطلقَ الإيجادِ والإحداثِ مجازاً من غيرِ ملاحظةِ معنى التَّقديرِ وإنْ لم يخلُ عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجدَ كلَّ شيء فقدَّره في ذلك الإيجاد تقديراً وأما ما قيل من أنه أنَّه سَمَّى إحداثه تعالى خَلْقاً لأنَّه تعالى لا يُحدث شيئاً إلاَّ على وجه التَّقديرِ من غير تفاوت ففيه أنَّ ارتكابَ المجاز بحملِ الخلقِ على مُطلق الإحداثِ لتجريده عن معنى التَّقديرِ فاعتباره فيه بوجهٍ من الوجوه مخلٌّ بالمرام قطعاً وقيل المراد بالتَّقدير الثَّانِي هو التَّقديرُ للبقاء إلى الأجل المُسمَّى وأيا ما كان فالجملةُ جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لما قبلها من الجُمل المنتظمةِ مثلَها في سلك الصِّلةِ فإنَّ خلقَهُ تعالى لجميع الأشياء على ذلك النَّمطِ البديعِ كما يقتضي استقلاله تعالى باتِّصافه بصفات الأُلوهيَّةِ يقتضي انتظامَ كلِّ ما سواه كائناً ما كان تحت ملكوته القاهرة بحيثُ لا يشِذُّ عنها شيءٌ من ذلك قطعاً وما كان كذلك كيف يُتوَّهم كونُه ولداً له سبحانه أو شريكاً في ملكه
﴿واتخذوا من دونه آلهة﴾ بعدما بيَّن حقيقةَ الحقِّ في مطلع السورةِ الكريمة بذكر تنزله تعالى للفُرقان العظيم على رسوله ﷺ ووصفِه تعالى بصفاتِ الكمال وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل عقَّب ذلك بحكايةِ أباطيلِ المُشركين في حقِّ المنزِّل سبحانَهُ والمنزَّلِ والمُنزَلِ عليه على التَّرتيب وإظهار بطلانها