ص ١٥ ١٧
﴿وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء﴾ شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعاً وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علم الله عز وجل فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاء إنما يُتصور في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ ﴿إِلاَّ صَيْحَةً واحدة﴾ هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أعدلهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذبهم بالاسئصال حسبما يستحقونه والنبي ﷺ بين أظهرِهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنيّةِ على الحِكَم الباهرةِ كما نطقَ به قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وأمَّا ما قيل مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهد هو لها ولا يُصعقُ بَها إلاَّ مَنْ كانَ حيَّاً عندَ وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطلق مؤخر إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ وقرئ بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ وقولُه تعالى
﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ والقطُّ القطة من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها وقيل ذكرَ رسولُ الله ﷺ وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ
﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ ﴿واذكر﴾ لهم ﴿عَبْدَنَا داود﴾ أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهاً لهم على كمالِ قبحِ ما اجترءوا عليه من المَعاصي فإنَّه ﷺ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكفرة الأذلين


الصفحة التالية
Icon