٥ ١٠
وبعد ما بيَّنَ علوَّ شأنِ القرآنِ العظيمِ وحققَ أنَّ إنزالَهُ على لغتِهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبِه عقَّبَ ذلكَ بإنكارِ أنْ يكونَ الأمرُ بخلافهِ فقيلَ
﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر﴾ أي ونُبعدُه عنكم مجازٌ من قولِهم ضربُ الغرائبِ عن الحوضِ وفيه إشعارٌ باقتضاءِ الحمكة توجُّهَ الذكر إليهم وملازمتَه لهم كأنَّه يتهافتُ عليهم والفاء للعطف على محذوفٍ يقتضيهِ المقامُ أي أنهملكُم فننحِّى الذكرَ عنكُم ﴿صَفْحاً﴾ أي إعراضاً عنكم على أنَّه مفعولٌ له للمذكورِ أو مصدرٌ مؤكدٌ لما دَلَّ هو عليهِ فإن التنحيةَ منبئةُ عن الصفحِ والإعراضِ قطعاً كأنَّه قيلَ أفنصفحُ عنكُم صفحاً أو بمَعْنى الجانبِ فينتصب على الطرفية أي أفننحيهِ عنكُم جانباً ﴿أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ﴾ أي لأنْ كنتُم منهمكينَ في الإسرافِ مصرِّينَ عليهِ عَلى مَعْنى إنَّ حالَكُم وإنِ اقتَضَى تخليتَكُم وشأنَكُم حتَّى تموتُوا على الكفرِ والضلالةِ وتبقوا في العذابِ الخالدِ لكنا لسعةِ رحمتِنا لا تفعل ذلكَ بلْ نهديكُم إلى الحقِّ بإرسالِ الرسولِ الأمينِ واتزال الكتاب المحبين وقرىء إن بالكسرِ على أنَّ الجملةَ شطريه مخرِجةٌ للمحققِ مُخرجَ المشكوكِ لاستجالهالهم والجزاءُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه وقولُه تعالَى
﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين﴾ ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون﴾ تقريرٌ لما قبلَه ببيانِ أنَّ إسرافَ الأممِ السالفةِ لم يمنعْهُ تعالى من إرسالِ الأنبياءِ إليهم وتسليةٌ لرسول الله ﷺ عن استهزاءِ قومِه به وقوله تعالى
﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً﴾ أي من هؤلاء القوم المسرفينَ عِدَةٌ له عليهِ الصلااة والسَّلامُ ووعيدٌ لهم بمثلِ ما جَرَى على الأولينَ ووصفُهم بأشدِّيَّة البطشِ لإثباتِ حكمِهم لهؤلاءِ بطريقِ الأولويةِ ﴿ومضى مَثَلُ الأولين﴾ أي سلَف في القُرآنِ غيرَ مرةٍ ذكرُ قِصَّتِهم التي حقُّها أن تسيرَ مسيرَ المثلِ
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم﴾ أي ليُسنِدُنَّ خلقَها إلى مَنْ هذا شأنُه في الحقيقةِ وفي نفسِ الأمرِ لا أنَّهم يُعبِّرونَ عنه بهذا العُنوانِ وسلوكُ هذه الطريقةِ للإشعارِ بأنَّ اتصافَهُ تعالى بَما سُردَ من جلائلِ الصفاتِ والأفعالِ وبما يستلزمُه ذلكَ من البعثِ والجزاءِ أمرٌ بينٌ لا ريب فيه وأن الحجةَ قائمةٌ عليهم شاؤُا أو أبَوا وقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك عينَ عبارتهم قوله تعالى
﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ استئنافٌ من جهتِه تعالى أي بسَطَها لكُم تستقرُّونَ فيها ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ تسلكونَها في أسفارِكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾