٨٣ سورة (٣ ٦)
لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلا لا يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلت عليك فأنه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ وقد جُوِّز أن تكون على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأن القَصْر بتقديم الجار والمجرور انما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ ولا ريب في أن الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يُتصوّر أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى
واذا كالوهم أو وزونوهم
للناس أي اذا كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه
يُخْسِرُونَ
أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً
أي جنيتُ لكَ وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلام لبيان سواء معالمتم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى وقولُه تعالى
أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعه موضع ضميرهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلون منزلة الأمور المشارِ إليها إشارةً حسيةً وما فيه من معنى البعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقولُه تعالَى
يوم يقوم الناس لرب العالمين


الصفحة التالية
Icon