مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
* * *
(إَذْ قَالَ اللهُ) ظرف لمكر الله، (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) المراد من الوفاة ها هنا النوم، وعليه الأكثرون أو في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إليَّ ومتوفيك يعني بعده أو توفاه الله ثلاث ساعات حين رفعه إليه أو سبع ساعات (١) ثم أحياه أو متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت أي: قابضك من الأرض وافيًا لم ينالوا منك شيئًا من توفيت مالي، (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) إلى محل كرامتي، (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ

(١) كلام باطل يتفق مع أساطير النصارى قاتلهم الله.
قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: ١١٧] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: ٤٢].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ
وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ»
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النِّسَاءِ: ١١٣].
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَإِصْعَادُهُ إِلَى السَّمَاءِ تَوَفِّيًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ التَّوَفِّي عَيْنَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تَكْرَارًا.
قُلْنَا: قَوْلُهُ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّوَفِّي وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا بِالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا بِالْإِصْعَادِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ كَانَ هَذَا تَعْيِينًا لِلنَّوْعِ وَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مُتَوَفِّي عَمَلِكَ بِمَعْنَى مُسْتَوْفِي عَمَلِكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ وَرَافِعُ عَمَلِكَ إِلَيَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: ١٠] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِقَبُولِ طَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي تَمْشِيَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَتِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ وَلَا يَهْدِمُ ثَوَابَهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجْرِي الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهَا إِلَى تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَفَعَهُ حَيًّا، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِي إِيَّاكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا تُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب ٨/ ٢٣٧ - ٢٣٨)


الصفحة التالية
Icon