الحدِيد، وكَوَّنَ بذلك سَدّاً مَنيعاً، لا يُدرِكُه إِلّا الله يومَ قيامِ الساعة..
"!!
وهذا كلامٌ مفترىً، لم يَقُلْه رسولُ الله - ﷺ -، ولم يَذْكُرْه البيضاوي..
ونَقَلَ الفادي عن تفسيرِ البيضاوي قولاً آخر، وذلك في قولِه: " وقال
البيضاوي: إِنَّ ابنَ عباس سمعَ معاويةَ يَقرأُ " حامِيَة "، فقالَ: (حمَئَةٍ) فبعثَ
معاويةُ إِلى كعبِ الأَحبار: كيفَ تجدُ الشمسَ تَغرُب؟
قال: في ماءٍ وطين.. ".
وكانَ الفادي مُفْتَرِياً على البيضاوي في هذا النقلِ أَيْضاً، فالذي في تفسيرِ
البيضاوي هو: " في عينٍ حَمِئَة: ذاتِ حَمَأ..
من: حَمِئَت البئرُ " إِذا صارَتْ ذاتَ حَمْأَة..
وقرأَ ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيّ وأَبو بكر: " حامِيَة ".
أَيْ: حارَّة..
ولا تَنافي بينَهما، لجَوازِ أَنْ تكونَ العينُ جامعةً للوصْفَين...
ولعلَّه بلغَ ساحلَ المحيطِ فرآها كذلك..
وقيلَ: إِنَّ ابْنَ عباسٍ سمعَ معاويةَ يقرأُ
" حامِيَة "، فقال: (حمَئَةٍ)..
فبعثَ معاويةُ إِلى كعبِ الأَحبار: كيفَ تجدُ
الشمسَ تَغْرُبُ؟
قال: في ماءٍ وطين، كذلك نجدُه في التَّوراة! " (١).
وأَدْعو إِلى المقاربةِ بينَ كلامِ البيضاوي، والكلامِ الذي نَسَبَهُ له الفادي،
لمعرفةِ افترائِه وتَحريفِه وتَلاعُبه.
الإِمامُ البيضاويُّ يُريدُ أَنْ يُفَسِّرَ كلمةَ (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).
فقال: إِنَها عينٌ ذاتُ حَمَأ.
وذَكَرَ مِثالاً على هذا المعنى للتَّوضيح.
فقال: " يقال: حَمِئَت البئر؟
إِذا صارَتْ ذاتَ حمأة ".
والحَمَأُ هو: الطينُ الأَسودُ المنتنُ المتغَير.
ويُقال: حَمِئَ الماءُ حَمَأً: إِذا كَثُرَ فيه الحَمَأُ، وهو الطِّين، فَتَكَدَّرَ وتَغَيَّرَتْ رائحتُه.
ويقال: حَمَأَت البئرُ:
أَيْ: أَخْرَجَتْ حَمْأَتَها.
والعينُ الحَمِئَةُ هي: التي فيها الحَمَأُ.
وهو الطّين.
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنه خَلَقَ الإِنسانَ من حَمَأ، فقال تعالى:
٤٤- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية
تغرب الشمس فى عين حمئة، حسب القرآن [الكهف: ٨٦] وهذا مخالف للعلم الثابت. فكيف يقال إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة؟ (انتهى).
الرد على الشبهة:
فى حكاية القرآن الكريم لنبأ " ذو القرنين " حديث عن أنه إبان رحلته: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قومًا..) (١).
والعين الحمئة، هى عين الماء ذات الحمأ، أى ذات الطين الأسود المنتن.
ولما كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، فإن غروب الشمس ليس اختفاء فى عين أو غير عين، حمئة أو غير حمئة.. والسؤال: هل هناك تعارض بين حقائق هذا العلم الثابت وبين النص القرآنى؟.
ليس هناك أدنى تعارض - ولا حتى شبهة تعارض - بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس - غروبها - فى هذه البحيرة - العين الحمئة -.. وذلك مثل من يجلس منا على شاطئ البحر عند غروب الشمس، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص - رويدًا رويدًا - فى قلب ماء البحر.
فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة، أو فى البحر المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
وقد نقل القفال، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [٤٢٩ - ٥٠٧هـ - /١٠٣٧ - ١١١٤م] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية، متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال: " ليس المراد أنه [أى ذو القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة. وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أى البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها فى رأى العين تغرب فى عين حمئة، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض، ولهذا قال: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِترا) (٢). ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.. " (٣).
فالوصف هو لرؤية العين، وثقافة الرائى.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها، وحقيقة المعنى العلمى للشروق والغروب.
فلا تناقض بين النص القرآنى وبين الثابت من حقائق العلوم.. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(١) الكهف: ٨٦.
(٢) الكهف: ٩٠.
(٣) القرطبى [الجامع لأحكام القرآن] ج١١ ص ٤٩، ٥٠ - مصدر سابق -.