فِعْلَ كذا وكذا، فأما أَنَّ هذا الشَّكَّ وَقَعَ أَو لم يقع، فليسَ في الآيةِ دلالةٌ
عليه.
والفائدةُ في إِنزالِ هذه الآيةِ على الرسولِ - ﷺ - أَنَّ تَكثيرَ الدلائلِ وتقويتَها مما يَزيدُ في قوةِ اليقينِ وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أَكثرَ اللهُ في كتابِه من تقريرِ دلائلِ التوحيدِ والنبوة ".
ذَكَرْنا ما قالَه الرازي في تفسيرِ الآيةِ لنُطلعَ القراءَ على مزاجيةِ الفادي
وافترائِه، وتلاعُبه وتحريفِه، وافتقادِه الأَمانةَ العلميةَ في النقلِ والإِحالة، مع أَنه يلبسُ ثوبَ الموضوعيةِ والمنهجيةِ والحيادِ والبحثِ عن الحقيقة.
واستخرجَ من كلامِ الرازيِّ والبيضاوي أُكذوبةً مفتراة، لم يذكُرْ أَيٌّ منهما
حَرْفاً واحداً منها؟
قال: " واضحٌ من هذا أَنَ محمداً كان يَشُكُّ في مصدَرِ وَحْيِه، وأَنَّ كلامَه من عندِ الله أَم ليس بوحي، حتى نَصَحَهُ مَصدَرُ وَحْيِه أَنْ يَسألَ في ذلك اليهودَ والنصارى، الذين يَقْرَؤونَ الكتابَ من قبلِه، فإِن كانَ الرسولُ يشكُّ في رسالتِه، والمبلّغُ يَرتابُ في صِدْقِ بَلاغِه فكيف يَتوقَّعُ من سامِعيه أَنْ يُصَدِّقوه؟ ".
ولقد كانَ الفادي كاذباً مفترياً في كلامِه، وفي هذه النتيجةِ التي خَرَجَ
بها، وسَبَقَ أَنْ نفاها كُلٌّ من الرازي والبيضاوي.
ونفى الرسولُ - ﷺ - الشّكَّ عن نفسِه، ولذلك قال: " واللهِ لا أَشُكُّ ولا أَسْأَلُ "
أَي: أَنا لستُ في شَكٍّ مما أَوحى اللهُ إِليَّ، ولستُ بحاجةٍ إِلى سؤالِ أَهْلِ الكتاب (١).
وادَّعى الفادي المفترِي دَعوى كاذبةً، زَعَمَ فيها أَنَّ محمداً - ﷺ - اعترفَ أَنَّ مرجعَ القرآنِ هو الكتابُ المقَدَّس.
قال: " وفي الوقتِ الذي كانَتْ فيه الشكوكُ تُساورُ محمداً في وحْيِه اعترفَ أَنَّ المرجعَ والمحكَّ لأَقوالِه هو الكتابُ المقَدَّس، ولذلك قالَ في القرآن: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤).
فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)، وأن هذا نقيضُ ما وصَفَ به سائر رسله من
أنّهم أعلمُ الخَلْق به، وأعرفُهم بصدقه وصفاته، وأنهم مختارون ومصطفَون
على علمِ على العالمين، فإنه لا تعلق لهم فيه من وجوه.
أولها: أنّ هذا القولَ ليس بخبرٍ عن حصول شكه عليه السلام فيما أُنزل
عليه وإنّما هو تقريرٌ له وتنبية أنه منزل على غيره أيضًا، وقد يقول القائل لمن
يعلمُ أنه لا شكّ عنده في الأمر، ولا ريبَ: فإن كنتَ في شك مما أنزله
وأخْبَر به فسل غيري وسل الناس عنه، وسيما إذا كان يريدُ بذلك إظهارُ صدقه بحضرة من يُنكر ذلك ويدفعه، وربَّما قال له ذلك في الأمر الشائع
الذائع ليجعل له طريقاً إلى سؤال الناس وإخبارهم بما عندهم من العلم في
ذلك الأمر ليزول ذلك الشك ويقوى سلطانُ الحجَّة، وتبطل الشبهة.
والقومُ أعني قريشا، ومن خالفَ الرسولَ كانوا يقولون له فيما نقلوه إفك
افتراه، وإفك مفترًى ومحدَّث ومجنون، وإن هذا إلا خلق الأولين، وشاعر
مجنون، فقال له: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)، ليجعل له ذريعةً إلى ذلك، ومطالبةُ علمائهم مثلُ عبدُ الله بنُ سلام وغيره بما في كتابهم من ذلك تصديقاً لقوله أننا قد أبنَّا بذلك مَنْ كان قبلك، ولم يقُل إنك شاكٌّ فيما أنزل عليك.
ويُوضح هذا أيضا أن القائلَ قد يقول لمن يعلم بتيقنه ظلمُ زيد وجهلُه
وتخليطُه وأنه لا شك في ذلك: إن كنت في شك من ظُلم زيدٍ فعامِلْه لتنظر.
وإن كنتَ في شكٍ من تخليط فلانٍ وخبطه فقاوله وناظره، وإن كنت في شك
من هوْلِ البحر فاركبه، وإن كنت في شك من جود فلانٍ أو بُخله فمن يعرفُ حالَهُ فسلهُ والتمس منه لتعلم ردّه أو إجابَته، في أمثال هذا مما قد ظهر
استعمالُه بينهم، فعلى هذا الوجه ورد قولُه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ).
وقد يمكن أن يكون النبي - ﷺ - ظن أن بعض ما أُنزل إليه من العبادات أو بعض ما قصً عليه قد أُنزل على موسى، وأحب الله أن يقطعَ شكه في ذلك فقال: فإن كنت في شك مما أُنزلَ إليك في أنه منزل على موسى ومن كان قبلك فسَلْهم عن ذلك ليخبروك عنه، فيزولَ شكُّكَ، وقد يكونُ من مصالحه ومصالح أمته أو بعضها الأمرُ بسؤال أهل الكتاب عما يشكُ عليه السلامُ في أنَه منزَل عليهم، وربَّما كان ذلك تقويةً ليقين غيره إذا عَرَفَه، فلم يُرد بذلك الشكً في أنَه من عند الله، وإنما أرأدَ الشكُ في أنه منزل على غيره أم لا.
وقد يجوز أيضا أّن يكون أُتزل عليه جملةً قصةٍ وعبادةً مجمَلةً أخرَ عنه
بيانها إلى وقت الحاجة،. وقد بيّن تفصيلَها وشرح تلكَ القصة في كتابِ
موسى، فقال له: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) يعني في شك من تفصيلِه، فارجع في ذلك إلى أهل الكتاب فإنني قد أنزلتُ تفصيلَ ذلك عليهم، وليس هذا من الشك في أن ما أُنزلَ عليه منزل من عند الله بسبيل.
وقد يجوز أن يكون أراد بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي إن كان قومك أو
بعضُهم في شك فسل أهل الكتاب ليخبروهم بمثل ما تخبرهم به فيؤمنُ عند
ذلك من كان إخبارهم إياه به لطفا له، فيكون ذاكراً للنبي صلى الله عَليه
والمرادُ به غيره، وعلى نحو هذا ورد قولَه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥).
الخطاب له في الظاهر والمرادُ به غيره الشاكُّ فزال بذلك ما قَدَحوا به. اهـ (الانتصار للقرآن. ٢ / ٧١٥: ٧١٧)