ولذلك جاءَ الخَبَرُ (خَصْمَانِ) مثنى مراعاةً لاسم الإِشارةِ المثَنّى " هذان "،
وجاءَ الضميرُ العائدُ عليه جمعاً (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) مراعاةً لعَدَدِ أفرادِ الفريق، والفريقُ جَمْع.
ولذلك جاءَ بعد ذلك قولُه: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ... )
بصيغة الجمع!.
***
اسم الموصول المفرد العائد على الجمع
قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا).
اعترضَ الفادي على الآيةِ بقوله: " كانَ يجبُ أَنْ يَجمعَ اسْمَ الموصول
العائدَ على ضميرِ الجمعِ، فيقول: خُضتُم كالذينَ خاضوا ".
ولا مَعْنى لاعتراضِه، لأَنَّ شبْهَ الجملةِ (كَالَّذِى) صفةٌ لمفعول مطلقٍ
محذوف، والتقدير: خُضْتُم خَوْضاً كالذي خاضوه.
أَيْ: خُضتُم خَوْضاً كخوضِ الذينَ من قبلِكم.
وبهذا يكونُ اسْمُ الموصول " الذي " عائداً على مُفرد، وليس على جَمْع، وبهذا تَناسَقَ الموصول وما عادَ عليه، فلا إِشكال في صياغةِ الآية
والخوضُ في الآية معطوفٌ على الاستمتاع قبلَه.
قال تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا).
والمعنى: استمتَعْتُم بخَلاقِكُم استمتاعاً كاستمتاعِ الذينَ من قبلِكم،
وخضْتُم خَوْضاً كخوضِ الذينَ من قبلكم.
وبهذا نعرفُ جَهْلَ الفادي بقواعدِ اللغة (١).
قوله: ﴿كالذي خاضوا﴾ الكافُ كالتي قبله. وفي» الذي «وجوهٌ أحدُها: أن المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع. وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول، وعائدُ الموصول تقديرُه: خاضوه، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى ب» في «فاتُّسع فيه، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف، وأن يتحدَ المتعلَّق، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم.
الثاني: أنَّ» الذي «صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي: وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا. والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ.
الثالث: أنَّ» الذي «من صفةِ المصدرِ والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه. وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه.
الرابع: أن» الذي «تقعُ مصدريةً، والتقدير: وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله:
٢٥١٤ فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ... في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا
أي: كنَصْرهم. وقول الآخر:
٢٥١٥ يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي: ككونِه. وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: أيُّ فائدة في قوله: ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا﴾، وقوله: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مُغْنٍ عنه كما أغنى «كالذي خاضوا» [عن أن يقال: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا] ؟ قلت: فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع، ويُهَجِّن أمرَ الراضي به، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم.
وأمَّا «وخُضْتُمْ كالذي خاضوا» فمعطوفٌ على ما قبله، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة «يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا.
وفي قوله: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ﴾ إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ: وهو أن كانَ الأصلُ: فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ [مريم: ٤٤] وكقوله قبل ذلك: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧]. وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير. اهـ (الدر المصون).