بفعْلٍ مُقَدَّرٍ، جَمالٌ رائع في الأُسلوبِ القرآني، وتَعبيرٌ بَليغٌ معجزٌ رَفيع.
لكنَّ الجاهلينَ من أمثالِ الفادي لا يَرْتَقون إِلى مستوى فهمِه فيُخَطِّئونَه! (١).
***
هل ينصب المضاف إليه؟
خَطَّا الفادي نَصبَ (ضَرَّاءَ) في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠).
وبما أَنَّ (بَعدَ) ظَرْفُ زَمان، وهي مضاف، فإِنّ (ضَرَّاءَ) مُضافٌ إِليه.
والمضافُ إِليه مجرور، فلا بُدَّ أَنْ تَكونَ كلمةُ (ضَرَّاءَ) مجرورةً بالكسرة!!.
إِنَّ اعتراضَ الفادي على الآيةِ وتَخْطِئَتَه لها دليلٌ على جَهْلِه المطبقِ
بأَبسطِ قواعدِ اللغةِ العربية.
إِنه لا يَعرفُ الشيءَ المسَمّى " الممنوع من الصرف ".
وهو الاسْمُ الذي لا يَلْحَقُه التَّنْوين، والذي يُجَرُّ بالفتحةِ بَدَلَ الكسرة.
وتَحكمُ الممنوعَ من الصرفِ قواعدُ وضوابط دقيقة.
ومن الأَسماءِ الممنوعةِ من الصَّرْفِ كُلُّ اسمٍ مُؤَنَّثٍ مختومٍ بأَلِفٍ ممدودةٍ
بَعْدَها همزة، على وَزْنِ " فَعْلَاءَ ".
وفي الآيةِ التي خَطَّاَها الجاهلُ كَلِمتَانِ مَمْنوعَتان من الصَّرْفِ هما
(نَعْمَآءَ)، (ضَرَّاءَ).
وهما كلمتانِ مُتَقابلتان.
(نَعْمَآءَ) : مفعولٌ به ثانٍ للفعْلِ (أَذَقنَاهُ).
وهو منصوبٌ بالفتحةِ وليس بالتنوين؟
لأَنه ممنوعٌ من الصرف.
و (ضَرَّاءَ) في قوله: (بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّته) مضافٌ إِليه مجرورٌ بالفتحةِ بَدَلَ
الكسرة، لأَنه ممنوعٌ من الصَّرْف.
ولكنْ أَنّى للفادي الجاهلِ أَنْ يَعرفَ هذه القواعد؟
ومع ذلك نَصَّبَ نَفْسَه قاضياً على القرآن!!.
قوله: والمقيمين «قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة» والمقيمون «بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله ﴿والمؤتون الزكاة﴾ على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه:» يؤمنون «ولا يجوز أن يكون قوله ﴿أولئك سَنُؤْتِيهِمْ﴾ لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي:» ومَنْ جَعلَ نَصْبَ «المقيمين» على المدحِ جَعَلَ خبرَ «الراسخين» :«يؤمنون»، فإنْ جَعَل الخبر «أولئك» سنؤتيهم «لم يجز نصب» المقيمين «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» وقال الشيخ: «ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ» قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ «المقيمين» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق:
١٦٧٤- لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ | سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ |
النازلين بكلِّ معتَركٍ | والطيبون معاقدَ الأزْرِ |
١٦٧٥- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ | وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي |
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد ﷺ وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» فقيل: هم الملائكة قال مكي: «ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠]. وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في» قبلك «أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ.
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنه لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ.
قوله: ﴿والمؤتون﴾ فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال:» مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ «بنصب» العاقل «وجر» الفاضل «فكذلك هذا.
الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون»، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون»، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب»، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما لا خلاف فيه.
وقرأ حمزة: «سيؤتيهم» بالياء مراعاةً للظاهر في قوله: ﴿والمؤمنون بالله﴾ والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبةِ قوله: «وأعتدْنا» وهما واضحتان. اهـ (الدر المصون).