قال: " والصوابُ أَنْ يُقال: " ولكنَّ البِرَّ أَنْ تُؤمِنوا بالله "، لأَنَّ البِرَّ هو
الإِيمانُ وليس المؤمنَ ".
صَحيح أَنَّ البِرَّ هو الإِيمانُ وليس المؤمنَ، ولكنَّ الخَبَرَ في الحقيقةِ ليس
اسْمَ الموصول " مَنْ "، وإِنما هو مَحذوف، و " مَنْ " في الحقيقةِ مضافٌ إِليه
لمضافٍ محذوف.
والتقدير: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِالله.
أي: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ المؤمن.
فلم يأتِ اسْمُ الفاعل " المؤمن " في الآية بَدَل المصدر، كما فَهم الفادي
الجاهل، وإِنما هو مُضاف إِليه لمضافٍ مَحْذوف: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن (١).
***
لا يُعطف المنصوب على المرفوع
اعترضَ الفادي على صياغةِ قولِه تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).
واعتبرَ (وَالصَّابِرِينَ) المنصوب معطوف على (وَالْمُوفُونَ) المرفوع، وهذا خَطَأ.
قال: " وكانَ يجبُ أَنْ يُرفعَ المعطوفُ على المرفوع، فيقول: والموفونَ
بعهدِهم... والصابرون... ".
(وَالصَّابِرِينَ) ليستْ معطوفةً على (وَالْمُوفُونَ)، وإِلّا لكانَتْ مرفوعة، لأَنه
لا يَجوزُ عَطْفُ المنصوبِ على المرفوع.
إِنَّ (وَالصَّابِرِينَ) مفعولٌ به منصوبٌ بالياء، لفعلٍ محذوف، تقديرُه:
" أَمدح " أَي: وأَمدحُ الصابرين في البأساء والضراء.
وقد سبقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في آيةٍ قريبةٍ من هذه الآية، وهي
قولُه تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
قوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾
في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «البِرَّ» اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة «فَطِن»، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن.
الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: «ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن».
الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: «ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف» ولا يناسِبُ «ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف».
الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: «رجلٌ عَدْلٌ». ويُحكى عن المبردِ: «لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ:» ولكنَّ البَرَّ «بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن» البَرَّ «اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل.
الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: «رجل عَدْل» أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: «أقائماً وقد قعد الناس» في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل «بِرَّاً» ك «سِرّ»، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
وجَعَلَ الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقِعَ «الإِيمان» فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: «ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله». قال: «والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
٨٢٥ لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى | ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي |
وقرأ نافع وابن عامر:» ولكنْ البِرُّ «هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع» البرُّ «، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقرىء:» ولكنَّ البارَّ «بالألف وهي تقوِّي أنَّ» البِرَّ «بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وَوَحَّد» الكتابَ «لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ. اهـ (الدر المصون).