(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦)
الثانيةُ: قراءةُ ابنِ كثير وحمزةَ وأَبي عمرو ويعقوب وخلف وروايةُ حفصٍ
عن عاصم: " سَلاسِلَ " بالفتحة فقط.
على أَنه ممنوعٌ من الصَّرْف، لأَنه على صيغةِ منتهى الجموع.
وعليه يكونُ اعتراضُ الفادي الجاهل مَرْدوداً، فالكلمةُ ممنوعَةٌ من
الصَّرْفِ على القراءتين، لكنها مُنَوَّنَةٌ على القراءةِ الأُولى للمزاوجةِ والمجاورة.
وفي كلمةِ قوارير في قوله تعالى: "وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) ثَلاثُ قراءات:
الأُولى: قراءةُ نافع والكسائي: (قَوَارِيرَا).. (قَوَارِيَرْا) بتنوينِ الكلمتَيْن،
والوقوفِ عليهما بالأَلفِ، اتِّباعاً لرسْمِ المصحف، لأَنَّ الكلمتَيْن مكتوبَتان في
المصحفِ بالأَلِف.
وتوجيهُ هذه القراءةِ أَنَ تنوين " قواريرا " الأُولى ليس صَرْفاً لها، لأَنها
ممنوعةٌ من الصَّرف، وإِنما تنوينُها مراعاةً للفاصلةِ في الآياتِ التي قَبْلَها
وبَعْدَها، حيثُ خُتمتْ آياتُ السورةِ الواحدةُ والثلاثون كلُّها بكلماتٍ مُنَوَّنَة، فمن غيرِ المناسبِ أَنْ تأْتِيَ " قواريرَ " وَحْدَها ممنوعةً من الصَّرْف، وسْطَ ثلاثينَ آيةً مُنَونَة! وهذا من روائعِ التناسقِ في السياقِ القرآني، وليس مَأْخَذاً عليه!
وأَمَّا تَنوينُ (قَوَارِيَرْا) الثانية فلمجاوَرَتِها (قَوَارِيَرْا) الأُولى المنَوَّنَة.
الثانية: قراءةُ ابنِ كثير وخَلَف: (قَوَارِيَرْا) الأُولى بالتنوين.
و (قَوَارِيَرْا) الثانية بالفتحةِ وليسَ بالتنوين.
وحُجَّةُ تَنوينِ الأُولى موافقتُها للفاصلةِ في آيات السورةِ كما قَرَّرْنا، وحُجَّةُ عدمِ تنوينِ الثانيةِ عدمُ الاعتدادِ بالمجاورةِ والمزاوجة، واعتمادُ المنع من الصرف.
الثالثة: قراءةُ أَبي عمرو وابن عامر وحمزة، وروايةُ حفصٍ عن عاصم
بعدمِ التنوينِ في الكلمتين: (قَوَارِيَرْا)... (قَوَارِيَرْا).
واعتمادِ القاعدةِ في منعِ الكلمتَيْن من الصرف.
وتقديمِ القاعدةِ النحوية على رؤوس الآياتِ والمجاورةِ.
ولكنهم وقفوا على (قَوَارِيَرْا) الأُولى بالأَلفِ، لأَنها رأسُ آية: (وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا) (١).
وكتب ﴿سلاسلا﴾ في المصحف الإِمامِ في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءته، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا ﴿سَلاسلاً﴾ منوناً في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذيْن بعده وهما ﴿أغلالاً﴾ و ﴿سعيراً﴾، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي ﷺ لنساءٍ " ارجِعْنَ مَأزورات غير مأجورات " فجعل «مأزورات» مهموزاً وحقه أن يكون بالواو لكنه هُمز لمزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر «فيقال له: لاَ درَيْت ولا تلَيْت»، وكان الأصل أن يقال: ولا تَلوت.
ومنه قول ابن مُقْبِل أو القَلاَّحُ:
هتَّاكُ أخْبيَةٍ وَلاَّجُ أبْوِبَةٍ...
يُخَالطُ البِرُّ منه الجِدَّ واللِّينا
فقوله (أبوبة) جمع باب وحقه أن يَقول أبواب.
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة.
وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل.
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول ﴿سلاسلْ﴾ في الوقف.
وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منوناً في الوصل.
قرأه البَزي عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وحفصٌ عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها.
فأما الذين لم ينونوا ﴿سلاسلا﴾ في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية.
وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيراً ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع.
وبعدُ فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سُنة مَخصوصة به وذكر الطيبي: أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله: ﴿سَلاسلا﴾ بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمَدّ والإِمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر. اهـ
وقال رحمه الله عند قوله تعالى ﴿قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ﴾ ما نصه:
وكتب في المصحف ﴿قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا﴾ بألف في آخر كلتا الكلمتين التي هي علامة تنوين.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ﴿قواريرا﴾ الأول والثاني منونين وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقةِ من قوله ﴿كافوراً﴾ [الإنسان: ٥] إلى قوله ﴿تقديرا﴾ وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿سلاسلا وأغلالاً﴾ [الإنسان: ٤].
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب ﴿قوايراً﴾ الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي.
وقرآ ﴿قواريرا﴾ الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون. اهـ (التحرير والتنوير. للطاهر ابن عاشور)