قال تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
ومعلومٌ أَنَّ ناتجَ الثلاثةِ معَ السبعةِ عشرةٌ، فلماذا قال: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ؟
وهل هذا من بابِ تحصيلِ الحاصلِ وتوضيحِ الواضح؟.
الإِشارةُ في (تِلْكَ) إِلى حاصلِ جَمْعِ الثلاثةِ والسبعة.
والتقديرُ: نتيجةُ جمع الأَيامِ الثلاثةِ والسبعة هي عشرةُ أَيّام.
وحكمةُ ذكْرِ الجملةِ: (تِلْكَ عَشَرَةٌ)، هي التوكيدُ، ولإِفادةِ تَقريرِ الحكمِ
مَرَّتَيْن: مرةً بالتفريقِ: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)، ومرةً بالجمع: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
وهذا كقولك: كتبتُ بيدي.
فإضافَةُ شبْهِ الجملةِ " بيدي " للتوكيد، لأَنَّ الكتابةَ لا تكونُ إِلّا باليد، فهو يُريدُ التأكيدَ على الكتابةِ الحقيقيةِ الحسية.
ولذكْر الجملةِ حكمةٌ أُخرى، وهي نفيُ التخيير، والتأكيدُ على الإيجابِ
والإلزامِ بصيامِ العشرة أيام، لأَنَّ تَفريقَ الأَيام: ثلاثة وسبعة قَد يَتَوَهَّمُ منه
بعضُهم بأَنَّ المرادَ التخييرُ بين الثلاثةِ والسبعة، فنفت الجملةُ الأَخيرةُ التخيير،
وأَكَّدَتْ على أَنَّ المرادَ هو الإِيجاب، فليست الرخصةُ في إِنْقاصِها عن عشرة، وإِنما الرخصةُ في تفريقها بين ثَلاثَةٍ وسَبعة.
ووصْفُ العشرةِ بأَنها كاملة: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ليسَ من بابِ توضيحِ
الواضح، كما فَهمَ الفادي الجاهل، وإِنما من بابِ الحَثّ على صيامِها كُلِّها
كاملة، وعدمِ إِنقاصِ أَيِّ يومٍ منها، فإِنْ أَنقصَ يوماً منها لم تَكُن العشرةُ
كامِلَة.
فالمرادُ بكَمالِها كَمال صيامِها، وليس كمال عَدِّها، ولن يكونَ عَدُّها
كامِلاً إِلّا أَنْ يكونَ صيامُها كاملاً، فكمال عَدِّها بكمال صيامِها! (١).
***
هل يأتي فاعلان لفعل واحد؟
اعترضَ الفادي على قول اللهِ وَبَئ: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

(١) قال الإمام الفخر الرازي:
أما قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما: أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني: أن قوله: ﴿كَامِلَةٌ﴾ يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال، والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول: أن الواو في قوله: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله: ﴿مثنى وثلاث وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] وكما في قولهم: جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا، فالله تعالى ذكر قوله: ﴿عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ إزالة لهذا الوهم النوع.
الثاني: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله: ﴿كَامِلَةٌ﴾ كأنه لو قال: تلك كاملة، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة، أو السبعة المفردة عن الثلاثة، فلا بد في هذا من ذكر العشرة، ثم اعلم أن قوله: ﴿كَامِلَةٌ﴾ يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها: أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها: أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه
وثالثها: أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.
النوع الثالث: أن الله تعالى إذا قال: أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف، فلو قال: ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة، فإذا قال بعده: تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
النوع الرابع: أن مراتب الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئين، وألوف، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً، وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف، فصار تقدير الكلام: إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب.
النوع الخامس: أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب، كقوله: ﴿ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور﴾ [الحج: ٤٦] وقال: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها، وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.
النوع السادس: في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب، ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب، وهذا كما روي أنه قال في الشهر: هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع: أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن: أن قوله: ﴿فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.
النوع التاسع: أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير: فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ﴾ وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج، الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه.
النوع العاشر: أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى، فلما قال بعده: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص على ما قال تعالى: ﴿الصوم لي﴾ والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص، على ما قال: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ﴾ وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى، فالعقل دل أيضاً على ذلك، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق على النفس جداً، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى، والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعالى صيام هذه الأيام العشرة، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو، فقال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال، فكأنه قال: عشرة وأية عشرة، عشرة كاملة، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين. اهـ (مفاتيح الغيب. ٥ / ١٣٣ - ١٣٥)


الصفحة التالية
Icon