الالتفاتُ فيها من المخاطب: (إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلى الغائبِ:
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا).
واللطيفُ في صياغةِ الآيةِ أَنَّ أَوَّل جملتَيْن فيها بصيغةِ الخِطاب: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)، ولعلَّ الخطابَ فيهما دَعوةُ السامعين إلى تَصَوُّرِ المشهدِ وتَخَيُّله واستحضارِه، فإِذا استَحْضَروه وتَخَيَّلوه، جاءَ الكلامُ بصيغةِ الغائب، لأَنَّ السامعين مُراقبونَ مُشاهدونَ، رُواة مُخْبِرون، وجاءَتْ سِتُّ جُمَل للروايةِ والإخبار: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
والمشهدُ المعروضُ يناسبُه الإِخبارُ بصيغةِ الغائب، وليس الخطابَ المباشر.
واللطيف في الآية أَيْضاً أَنَّ فِعْلَ الشرط جاءَ بصيغةِ الخِطاب: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)، وجوابَ الشرطِ جاء بصيغةِ الغائِب: (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ.
وهذا مَعناهُ أَنَّ القرآنَ المعجزَ " يُنَوِّعُ " في أَساليبِ تعبيرِه، و " يتفنَّنُ " في
تَصويرِه وتَأَثيرِه (١).
***
حكمة إفراد الضمير العائد على المثنى
اعترضَ الفادي على عودةِ ضميرٍ مفردٍ على اثْنَيْن مذكورَيْنِ @قَبْلَه.
قال:
جاء في سورة التوبة: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، فلماذا لم
يُثَنِّ الضميرَ العائِدَ على الاثنَيْن، اسمِ الجلالةِ ورسوله، فيقول: " أنْ
يُرْضوهما ".
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ).
والأصل بكم، ونكتةُ العدول عن خطابهم إلى حكاية
حالهم لغيرهم التعجّبُ من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت
تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل:
((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، فلو كان: وجَرَيْن بكم
للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص.
قلت: ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكسَ ذلك، وهو أن الخطاب
أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - قال: ذكر الحديثَ عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجَرَيْنَ بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجَرَيْن بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته.
فلله درُّ السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يَدْأب المتأخرون فيها زماناً طويلاً، ويُفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أنْ يحومُوا حول الحمى.
ومما ذُكر في توجيههم أيضاً أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاكَ
وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورُهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية. اهـ (معترك الأقران في إعجاز القرآن. ١ / ٢٨٨).
وقال السمين:
قوله: ﴿وَجَرَيْنَ﴾ يجوز أن يكونَ نسقاً على «كنتم»، وأن يكونَ حالاً على إضمار «قد». والضميرُ عائدٌ على «الفلك»، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم أنه مكسرَّ، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ «بُدْن»، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش.
وقوله: ﴿بِهِم﴾ فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري: / «فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح». وقال ابن عطية: «بهم» خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: ﴿كُنتُمْ فِي الفلك﴾ هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن «انتهى. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] تقديره: أو كذي ظلمات» وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: «والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ﴾ خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق». اهـ (الدر المصون).