واحدةٍ في هذا الموضوعِ المالي فقد تَنْسى كثيراً من التفاصيل، وبذلك قد
تُضَيِّعُ حَقَّ الرجل، ولذلك اشترطَ القرآنُ اجتماعَ امرأتَيْن للشهادة، بحيتُ تُذَكِّرُ كُلّ واحدةٍ الأُخْرى، وبذلك تُؤَدَّى الشهادةُ على وجْهِها، ولا تَضيعُ الحقوق.
أَما الرجالُ فإِنَّ التفصيلاتِ الماليةَ تَعْنيهم غالباً؛ لأَنها تَتفقُ مع مهمتِها
التي خَلَقَهم اللهُ لها، ولذلك يَحفظونَها ويَعرضونَها بدِقَّة!.
وقالَ الفادي في اعتراضِه على القرآنِ بشأنِ نصيبِ المرأةِ من الميراث:
" وجاءَ في سورةِ النساءِ: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، فلماذا يُعطي المرأةَ نصْفَ نَصيبِ الرجل، مع أَنَّ الحياةَ تَقْسو على
المرأةِ أَحْياناً أَكثر من قسوتِها على الرجُل؟
إِنَّ القسمةَ (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) من أَصلِ الجاهلية، جاءَ في كتابِ بُلوغ الأَرب: وأَوَّلُ منْ قَسَمَ للرجلِ مثلَ حَظّ الأُنثييْن عامرُ بنُ جَهْم الجُهَني ".
الزعمُ بأَنَّ إِعطاءَ الرجُل مثلَ حَظِّ الأُنثيَيْنِ تَشريعٌ جاهِليٌّ زَعْمٌ باطِلٌ
مردود، رَدَّدَهُ الفادي الجاهلُ، ونَسبَهُ إِلى كتابٍ غيرِ مُوثَّق! إِنهُ تَشريعٌ إِسلاميٌّ قرآني، وَرَدَ النَّصُّ عليه في القرآن.
وليس فيه هَضْمٌ لحقوقِ المرأَةِ كما ادَّعى الفادي، وإنما هو يتفقُ مع طبيعةِ
المرأة ومهمَّتها ووظيفتِها في الحياة.
فالإِسلامُ قد كَرَّمَ المرأةَ وصانَها واحترمَها، ومَنَحَها شخصيَّتَها الماليةَ المستقلة، وأَباحَ لها جمعَ الأَموال وتملُّكَها، في الوقتِ الذي لم يوجِبْ عليها إنفاقَ شيءٍ من أَموالِها على الأُسرة.
جعلَ الإِسلامُ الإِنفادق على الرجلِ في البيت، سواء كانَ أَباً أَو زوجاً أَو
أَخا أَو ابناً، ولو كانت النساءُ في البيت يمتلكْنَ الأَموالَ فإِنَّه لا يَجبُ عليهنَ
إِنفاقُ شيءٍ من أَموالِهن، وعلى الرجلِ أَنْ يُرَتِّبَ أَمْرَه ويُنفقَ ولو بالاستدانة.
ولذلك ناسبَ أَنْ يُعطى الرجلُ المأمورُ بالإِنفاق مثلَ حَظِّ الأُنثيَيْنِ،
اللتَيْن لا يجبُ عليهما إِنفاقُ شيء.
وسبحان اللهِ الحكيم في خلْقِه وفعلِه وتشريعِه! (١).
١٣٠- أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر
الرد على الشبهة:
صحيح وحق أن آيات الميراث فى القرآن الكريم قد جاء فيها قول الله سبحانه وتعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (١) ؛ لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة فى الإسلام، متخذين من التمايز فى الميراث سبيلاً إلى ذلك لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطّردة فى توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله فى المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. إنما قال: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطّردة فى كل حالات الميراث، وإنما هو فى حالات خاصة، بل ومحدودة من بين حالات الميراث.
بل إن الفقه الحقيقى لفلسفة الإسلام فى الميراث تكشف عن أن التمايز فى أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية فى التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث فى بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة فى الإسلام. وذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات فى فلسفة الميراث الإسلامى - إنما تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى فكلما اقتربت الصلة.. زاد النصيب فى الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب فى الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين..
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها فى الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة. وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها - عادة - مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه - وكلتاهما أنثى -.. وترث البنت أكثر من الأب! - حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن، والتى تنفرد البنت بنصفها! -.. وكذلك يرث الابن أكثر من الأب - وكلاهما من الذكور..
وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث فى الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين!..
وهى معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
وثالثها: العبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين.. وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. لكنه تفاوت لا يفضى إلى أى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها.. بل ربما كان العكس هو الصحيح!..
ففى حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون فى درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا فى موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال - مثل أولاد المتوفَّى، ذكوراً وإناثاً - يكون تفاوت العبء المالى هو السبب فى التفاوت فى أنصبة الميراث.. ولذلك، لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين، وإنما حصره فى هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. ولم تقل: يوصيكم الله فى عموم الوارثين.. والحكمة فى هذا التفاوت، فى هذه الحالة بالذات، هى أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى - هى زوجه - مع أولادهما.. بينما الأنثى الوارثة أخت الذكر - إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهى - مع هذا النقص فى ميراثها بالنسبة لأخيها، الذى ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازاً منه فى الميراث.. فميراثها - مع إعفائها من الإنفاق الواجب - هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوى، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين..
وإذا كانت هذه الفلسفة الإسلامية فى تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات وهى التى يغفل عنها طرفا الغلو، الدينى واللادينى، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئى شبهة تلحق بأهلية المرأة فى الإسلام فإن استقراء حالات ومسائل الميراث - كما جاءت فى علم الفرائض (المواريث) - يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة فى هذا الموضوع.. فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث، يقول لنا:
١ - إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
٢ - وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
٣ - وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
٤ - وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
أى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هى ولا يرث نظيرها من الرجال، فى مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.. (٢) "!!.
تلك هى ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث فى علم الفرائض (المواريث)، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام فى التوريث.. والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون من الذين لا يعلمون!..
وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة، كما قررها الإسلام. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(٢) د. صلاح الدين سلطان "ميراث المرأة وقضية المساواة " ص١٠، ٤٦، طبعة القاهرة، دار نهضة مصر سنة ١٩٩٩م - " سلسلة فى التنوير الإسلامى ".