بينما لا تمتلكُ المرأةُ إِلّا نَصيباً منْ مالِه؟
الطبيعيُّ أَنْ يكونَ جسدُ الرجلِ مِلْكَ المرأة، وجَسَدُ المرأةِ مِلْكَ الرجُل، ولماذا يستبدُّ الرجلُ بالفِراق، ولا يُسمحُ للمرأَةِ بالفراق إِذا رَأَتْ ذلك، في حالةِ خيانتِه، وإِنْ كانَ من العيبِ أَنْ تَضربَ المرأةُ الرجلَ، فلماذا تَسمحُ الشريعةُ الإِسلاميةُ للرجلِ أَنْ يَضربَ المرأة؟ " (١).
يَجِبُ أَنْ نُفرقَ أَوّلاً بينَ القوامةِ والتَّفْضيل، فالقوامَةُ منزلةٌ دنيوية، تَقومُ
على المسؤوليةِ لمواهبَ وقُدُرات، أَمّا التفضيلُ فهو منزلةٌ دينية إِيمانية، يَرتفعُ
بها صاحِبُهَا عندَ الله.
لقد جعل اللهُ القوامةَ في الدنيا للرجالِ على النِّساء، بمعنى أَنه أَعطى
مسؤوليةَ إِدارةِ الأُسرةِ والبيتِ للرجُل، فهو صاحبُ القِوامةِ والمسؤوليةِ والقيادةِ والحكمِ في هذه المؤسسة.
وذَكرت الآيةُ سَبَبَيْن لجعْلِ القوامةِ للرجال:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)...
السببُ الأوَّل: ما منحهُ اللهُ للرجالِ من مواهبَ وطاقاتٍ خاصّة، تَمَيَّزوا
بها عن النساء، تُؤَهِّلُهم للقيامِ بواجبِ القوامة، وإِدارةِ شُؤونِ الأُسْرَة،
وفَضَّلَهم اللهُ بهذه المواهبِ تَفْضيلاً دُنيوياً.
السببُ الثاني: ما أَوجبهُ اللهُ على الرجال من إِنفاقِ الأَموالِ على مُؤَسَّسةِ
الأُسْرَة، فالإِنفاقُ واجبٌ على الرجل، ولا يَجبُ على امرأَتِه أَنْ تُنفقَ شيئاً ولو كانتْ تملكُ المالَ الكثير.
وكونُ القوامةِ الدنيويةِ بيدِ الرِّجالِ لا يَعْني أَنَّ جِنْسَ الرجالِ أَفْضلُ من
جنس النساءِ عندَ الله، فأَساسُ التفضيلِ عندَ الله ليس الجنسَ أَو اللون، إِنما
هو الإِيمانُ والتقوى، كما قالَ الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فإذا كانت المرأةُ صالحةً تقيةً كانتْ أَفضلَ عندَ الله من زوجِها
غيرِ التَّقِيّ، أَو الأَدنى منها في التقوى.
١٣٤- الرجال قوَّامون على النساء
الرد على الشبهة:
فى المدينة المنورة نزلت آيات " القوامة " قوامة الرجال على النساء.. وفى ظل المفهوم الصحيح لهذه القوامة تحررت المرأة المسلمة من تقاليد الجاهلية الأولى، وشاركت الرجال فى العمل العام مختلف ميادين العمل العام على النحو الذى أشرنا إلى نماذجه فى القسم الأول من هذه الدراسة؛ فكان مفهوم القوامة حاضراً طوال عصر ذلك التحرير.. ولم يكن عائقاً بين المرأة وبين هذا التحرير..
ولحكمة إلهيةِ قرن القرآن الكريم فى آيات القوامة بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التى للرجال على النساء، بل وقدم هذه المساواة على تلك الدرجة، عاطفاً الثانية على الأولى ب " واو " العطف، دلالة على المعية والاقتران.. أى أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان، يرتبط كل منهما بالآخر، وليسا نقيضين، حتى يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقص من المساواة..
لحكمة إلهية جاء ذلك فى القرآن الكريم، عندما قال الله سبحانه وتعالى فى الحديث عن شئون الأسرة وأحكامها:
(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) (١).
وفى سورة النساء جاء البيان لهذه الدرجة التى للرجال على النساء فى سياق الحديث عن شئون الأسرة، وتوزيع العمل والأنصبة بين طرفى الميثاق الغليظ الذى قامت به الأسرة الرجل والمرأة فإذا بآية القوامة تأتى تالية للآيات التى تتحدث عن توزيع الأنصبة والحظوظ والحقوق بين النساء وبين الرجال، دونما غبن لطرف، أو تمييز يخل بمبدأ المساواة، وإنما وفق الجهد والكسب الذى يحصِّل به كل طرف ما يستحق من ثمرات.. (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليماً * ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيداً * الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..) (٢).
ولقد فقه حبر الأمة، عبد الله بن عباس [٣ق هجرية ٦٨ هجرية / ٦١٩ ٦٨٧م] الذى دعا له الرسول ﷺ ربه أن يفقهه فى الدين فهم الحكمة الإلهية فى اقتران المساواة بالقوامة، فقال فى تفسيره لقول الله، سبحانه وتعالى -: (ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) تلك العبارة الإنسانية، والحكمة الجامعة: " إننى لأتزين لامرأتى، كما تتزين لى، لهذه الآية "!
وفهم المسلمون قبل عصر التراجع الحضارى، الذى أعاد بعضاً من التقاليد الجاهلية الراكدة إلى حياة المرأة المسلمة مرة أخرى - أن درجة القوامة هى رعاية رُبّان الأسرة الرجل لسفينتها، وأن هذه الرعاية هى مسئولية وعطاء.. وليست ديكتاتورية ولا استبدادا ينقص أو ينتقص من المساواة التى قرنها القرآن الكريم بهذه القوامة، بل وقدمها عليها..
ولم يكن هذا الفهم الإسلامى لهذه القوامة مجرد تفسيرات أو استنتاجات، وإنما كان فقهاً محكوماً بمنطق القواعد القرآنية الحاكمة لمجتمع الأسرة، وعلاقة الزوج بزوجه.. فكل شئون الأسرة تُدار، وكل قراراتها تُتَّخذ بالشورى، أى بمشاركة كل أعضاء الأسرة فى صنع واتخاذ هذه القرارات، لأن هؤلاء الأعضاء مؤمنون بالإسلام والشورى صفة أصيلة من صفات المؤمنين والمؤمنات (والذين يجتنبون كبائرالإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون *والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون) (٣).
فالشورى واحدة من الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات، فى كل ميادين التدبير وصناعة القرار.. والأسرة هى الميدان التأسيسى والأول فى هذه الميادين.. تجبُ هذه الشورى، ويلزم هذا التشاور فى مجتمع الأسرة - لتتأسس التدابير والقرارات على الرضا، الذى لا سبيل إليه إلا بالمشاركة الشورية فى صنع القرارات.. يستوى فى ذلك الصغير والخطير من هذه التدابير والقرارات.. حتى لقد شاءت الحكمة الإلهية أن ينص القرآن الكريم على تأسيس قرار الرضاعة للأطفال - أى سقاية المستقبل وصناعة الغد على الرضا الذى تثمره الشورى.. ففى سياق الآيات التى تتحدث عن حدود الله فى شئون الأسرة.. تلك الحدود المؤسسة على منظومة القيم.. والمعروف.. والإحسان.. ونفى الجُناح والحرج.. وعدم المضارة والظلم والعدوان.. والدعوة إلى ضبط شئون الأسرة بقيم التزكية والطهر، لا " بترسانة " القوانين الصماء!.. فى هذا السياق ينص القرآن الكريم على أن تكون الشورى هى آلية الأسرة فى صنع كل القرارات: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) (٤).
هكذا فهم المسلمون معنى القوامة.. فهى مسئولية وتكاليف للرجل، مصاحبة لمساواة النساء بالرجال.. وبعبارة الإمام محمد عبده: " إنها تفرض على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء ".
وكانت السنة النبوية فى عصر البعثة البيان النبوى للبلاغ القرآنى فى هذا الموضوع.. فالمعصوم ﷺ الذى حمّله ربه الحمل الثقيل فى الدين.. والدولة.. والأمة.. والمجتمع - (إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً) (٥). هو الذى كان فى خدمة أهله - أزواجه - وكانت شوراهن معه وله صفة من صفات بيت النبوة، فى الخاص والعام من الأمور والتدابير.. ويكفى أن هذه السنة العملية قد تجسدت تحريراً للمرأة، شاركت فيه الرجال بكل ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.. وحتى القتال.. كما كان ﷺ دائم التأكيد على التوصية بالنساء خيراً.. فحريتهن حديثة العهد، وهن قريبات من عبودية التقاليد الجاهلية، واستضعافهن يحتاج إلى دوام التوصية بهن والرعاية لهن.. وعنه ﷺ تروى أقرب زوجاته إليه عائشة رضى الله عنها: " إنما النساء شقائق الرجال " رواه أبو داود والترمذى والدارمى والإمام أحمد وعندما سئلت:
ما كان رسول الله ﷺ يعمل فى بيته؟
قالت: " كان بشراً من البشر، يغلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه " رواه الإمام أحمد يفعل ذلك، وهو القَوَّام على الأمة كلها، فى الدين والدولة والدنيا جميعاً!.. وفى خطبته ﷺ بحجة الوداع [١٠ هجرية / ٦٣٢ م] وهى التى كانت إعلانا عالميا خالداً للحقوق والواجبات الدينية والمدنية - كما صاغها الإسلام أفرد ﷺ للوصية بالنساء فقرات خاصة، أكد فيها على التضامن والتناصر بين النساء والرجال فى المساواة والحقوق والواجبات فقال: " ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً.. فاتقوا الله فى النساء، واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت!. اللهم فاشهد " (٦).
هكذا فُهمت القوامة فى عصر التنزيل.. فكانت قيادة للرجل فى الأسرة، اقتضتها مؤهلاته ومسئولياته فى البذل والعطاء.. وهى قيادة محكومة بالمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه فى الحقوق والواجبات ومحكومة بالشورى التى يسهم بها الجميع ويشاركون فى تدبير شئون الأسرة.. هذه الأسرة التى قامت على " الميثاق الغليظ " ميثاق الفطرة والذى تأسس على المودة والرحمة، حتى غدت المرأة فيها السكن والسكينة لزوجها حيث أفضى بعضهم إلى بعض، هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن، فهى بعض الرجل والرجل بعض منها: (بعضكم من بعض) (٧) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (٨) (هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن) (٩) (وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) (١٠).
وإذا كانت القوامة ضرورة من ضروريات النظام والتنظيم فى أية وحدة من وحدات التنظيم الاجتماعى، لأن وجود القائد الذى يحسم الاختلاف والخلاف، هو مما لا يقوم النظام والانتظام إلا به.
فلقد ربط القرآن هذه الدرجة فى الريادة والقيادة بالمؤهلات وبالعطاء، وليس بمجرد " الجنس " فجاء التعبير: (الرجال قوامون على النساء) وليس كل رجل قوّام على كل امرأة.. لأن إمكانات القوامة معهودة فى الجملة والغالب لدى الرجال، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال، كان الباب مفتوحاً أمام الزوجة إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه لتدير دفة الاجتماع الأسرى على نحو ما هو حادث فى بعض الحالات!..
هكذا كانت القوامة فى الفكر والتطبيق فى عصر صدر الإسلام.. لكن الذى حدث بعد القرون الأولى وبعد الفتوحات التى أدخلت إلى المجتمع الإسلامى شعوباً لم يذهب الإسلام عاداتها الجاهلية، فى النظر إلى المرأة والعلاقة بها، قد أصاب النموذج الإسلامى بتراجعات وتشوهات أشاعت تلك العادات والتقاليد الجاهلية فى المجتمعات الإسلامية من جديد..
ويكفى أن نعرف أن كلمةٍ " عَوَان " التى وصف الرسول ﷺ بها