لقد حَرَّمَ اللهُ الفحشاءَ، فكيفَ يَامُرُ بها، واللهُ لا يَامُرُ إِلّا بالقِسْطِ
والخَيْر، ولذلكَ قالَ في الآيةِ التالية: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
أَمّا آيةُ سورةِ الإِسراءِ فلا تَدُلُّ على أَنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالفحشاء، ولا تَتَناقَضُ
مع آيةِ سورةِ الأَعْراف، وإِنما تَلْتَقي معها في تقريرِ أَمْرِ اللهِ بالخيرِ والقسط،
ونهيِه عن الشَّرّ والفَحْشاء.
بماذا يَأمُرُ اللهُ المتْرَفين؟
هل يَأْمُرُهم بالفسق والفَحشاء؟
: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦).
يَستحيلُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ المتْرَفين بالفسقِ والفحشاء، لأَنه سبحانه لا يَأمُرُ
بالفحشاء!
وفي قولِه: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) كلام مُقَدَّر، يَقْتَضيه السياقُ
والمعنى.
والتقديرُ: أَمَرْنا مُتْرَفيها بالطاعة، فَعَصوْا أَمْرَنا وفَسَقوا فيها، وبذلك
حَقَّ عليهم القولُ والحكمُ والعذاب، فأَهلكناهم ودَمَّرْناهم.
ومن المعلومِ أَنَ القرآنَ المعجزَ قد يَحذفُ بعضَ الكلماتِ من تعبيرِه قَصْداً،
حتى يُفَكَرَ فيه المتَدَبِّرون، ويُقَدِّروا الكلامَ الذي يَقْتَضيه السياق، ولا يَأْخُذوا الأَمْرَ على ظاهِرِه..
وهذا معنى لا يُدركُه الفادي الجاهلُ، المحجوبُ عن القرآن.
ثامناً: حول القسم بالبلد الأمين:
الْتَبَسَ على الفادي الجاهلِ قَسَمُ القرآنِ بالبَلَدِ الأَمينِ مكةَ المكرمة، فَظَنَّ
القرآنَ متناقضاً، لأَنه لا يقسمُ به في موضع، ويُقسمُ به في موضعٍ آخر!.
فهم قولَه تعالى: (لَاَ أقُسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) نفياً للقَسَم به، واعْتَبَرَه مُنَاقضاً
للقَسَمِ الصَّريح به في قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤).
في سورةِ التينِ قَسَمٌ صريحٌ بالبَلَدِ الأَمين، حيثُ أَقْسَمَ اللهُ بأَربعةِ أَشْياء:
التينِ والزيتونِ وطور سينين والبلدِ الأَمين.
والمقسَمُ عليه الإِنسانُ، الذي خَلَقَه اللهُ في أَحسنِ تقويم، ثم رَدَّهُ أَسْفَلَ سافلين.