ولم يُبِح الرسولُ - ﷺ - لنفسِه عدمَ العدلِ بين الزوجات، وإِنما أَعفاهُ اللهُ من ذلك، وذلك في قولِه تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ).
ومع أَنَّ اللهَ أَعْفاهُ من وجوبِ العَدْلِ، إِلّا أَنه أَخَذَ بالأَفضلِ والأَكمل،
فكانَ يَعدلُ بين نسائِه.
روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أَنَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - كانَ يَستأذنُ في يومِ المرأةِ مِنّا، بعدَ أَنْ أُنزلَتْ عليه هذه الآيةُ: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ).
فقالَتْ لها مُعاذَة: ماذا كنتِ تَقولين؟
قَالَتْ عائشة: " كنتُ أَقولُ له: إِنْ كانَ ذلك إِليّ، فإِنّي لا أُريدُ يا رسولَ اللهِ أَنْ أُوثرَ عليك أَحداً ".
حول حرمة نكاح أزواج النبي - ﷺ -:
حَرَّمَ اللهُ على المسلمين نِكاحَ أَزواجِ النبيّ - ﷺ - من بعده.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣).
وهذا لم يُعجِب الفادي المفترِي، وأَثارَ اعتراضَه واستنكارَه، قال:
" ولماذا يُعطي الحقَّ لجميعِ الأَرامِلِ أَنْ يتزوَّجْنَ، ويُحَرّمُ هذا الحقَّ على نسائه، فيوصي أَنْ لا يتزوَّجْنَ من بعدهِ أَبداً؟ " (١).
لم يُحَرِّم الرسولُ - ﷺ - على المسلمين نِكاحَ أَزواجِه من بعدِه، والذي حَرَّمَ ذلك هو اللهُ - عز وجل -، ووردَ ذلك التحريمُ في الآيةِ القرآنيةِ الحكيمة، التي أَوردْناها قبلَ قَليل.
واللهُ عليمٌ حكيمٌ في ما يُشَرِّعُ من الأَحكام، والإِنسانُ يتلَقّى حُكْمَ اللهِ
بالقَبولِ والرضا والتسليمِ واليقين.
وحكمةُ تحريمِ نكاحِ أَزواجِه أَنهنَّ أُمَّهاتٌ للمؤمنين، أُمومةً اعتباريةً
معنوية، تَقومُ على الاحترامِ والتكريمِ والتوقير.
قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ).
ربما قال قائل: آمنا بأن تعدد الزوجات كان مألوفا فى الديانات الأرضية والسماوية حتى جاء الإسلام فوضع عليه القيود، فلماذا لم يلتزم نبى الإسلام بالعدد الذى وقف بالمسلمين عنده؟ ألم يجئ فى الأحاديث الصحاح أنه أمر رجلا لديه عشر زوجات أن يمسك أربعا ويسرح الباقيات؟ قلت: سؤال صحيح! فلنتدبر الإجابة عليه! أن النسوة الست التى طلقهن صاحب العشرة سيتركن بيته ويجدن بيوتا أخرى، فلهن حق الزواج ممن أحببن، ولاحرج على أحد فى التزوج منهن! لكن ماذا عسى يفعل زوجات الرسول إذا كان الوحى قد نزل من قبل يقول للمسلمين: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) لقد صرن أمهات للمؤمنين وفق النص القائل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..) وما كان لمؤمن أن يتزوج أمه! فهل يسوغ بعد هذا تسريحهن ليعشن فى وحدة وإياس؟ ولنفرض زورا أن تسريحهن مطلوب فهل هذا هو الجزاء الإلهى لنسوة تحملن مع صاحب الرسالة شظف العيش ومشقات الحصار المضروب على أمته؟ لقد اخترن البقاء معه عندما خيرهن، وأبين العودة إلى أهلهن فى بيوت أملأ بالسمن والعسل، وحملهن الإيمان على البقاء فى جو التهجد والصيام والكفاح مع النبي الذى انتصب لمقاومة الضلال فى العالمين، فهل يكون الجزاء بعد هذا الوفاء الخلاص منهن؟ إن الله أذن ببقائهن، والاقتصار عليهن، وصدر لهن تشريع خاص (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا).
حلف الأطلسى. ، يحميهم وإنى أسائل الهاجمين على محمد من خلال هذه الثغرة المزعومة فى حياته، أهى محاكمة خاصة لهذا الإنسان الشريف؟ ومحاولة متعمدة للنيل منه وحده؟
أعرف أن مساءات كثيرة وجهت لأنبياء من قبله، وتعرض الرجال الصالحون لأقبح التهم! ألم يتهم النبي الطاهر لوط بأنه زنى بابنتيه كلتيهما بعد ما أفقدته الخمر وعيه وأنجب منهما؟ ألم يتهم النبي يعقوب بأنه سرق منصب النبوة من أخيه الأكبر عيصو بعد عملية احتيال ماكرة على أبيه الذى كف بصره؟ ألم يتهم سليمان بأنه انطلق فى شوارع القدس يبحث عن الحبيب المجهول ليأخذه إلى فراشه، مع أن عنده ألف امرأة؟ إن هذا البحث الماجن استغرق عدة صفحات مليئة بجمل طائشة تحت عنوان الإنشاد الذى لسليمان! من شاء قرأه فى العهد القديم.. ومع جنون الاتهام الذى سيطر على كاتبى هذه الصحف، فإن المتهمين بقوا أنبياء مكرمين! أما سليمان فقد جعله اليهود ملكا، ولكن أى ملك؟ إنه بانى الهيكل الذى يجب أن يعاد بناؤه ليكون مسكنا للرب يتجلى فيه بهاؤه ويحكم العالم كله من سدته بوساطة شعبه المختار من بنى إسرائيل!! أما محمد الصوام القوام الكادح لله طوال حياته، والذى جمع آخر عمره بضع نسوة من الأرامل والمصابات عشن معه على مستوى الضرورة، وتمحضن لله والدار الآخرة فهو وحده الذى يستباح وتتوارث الضغائن عليه، ويتجمع حلف الأطلسى لحماية شاتميه! ومن أولئك الشاتمون الغاضبون؟ أهم رهبان وقذتهم العبادة وكبتوا حب النساء فى دمائهم فهم يشتهون ويميتون شهواتهم ابتغاء رضوان الله كما يزعمون؟ كلا، إنهم أفراد وشعوب شربوا كئوس الشهوات حتى الثمالة، ولم يتركوا بابا للذة إلا افتتحوه دون تهيب أو حياء!
وحضارة أوروبا تميزت بأنها يسرت للدهماء من المتع ما كان حكرا على الملوك والرؤساء فأضحى الصعلوك قادرا على الاتصال بسبعين امرأة كلما ذاق جديدا طلب مزيدا ما تحجزه عن دناياه تقاليد ولا قوانين، وفى هذا الوسط من الدنس يذمون محمدا وينالون منه! أى منطق هذا المنطق الجائر الظلوم؟
إن الإسلام لم يأمر بتعدد الزوجات، فإن الزواج ليس نشدانا للذة فقط وإنما هو قدرة على التربية ورعاية الأسرة، فمن عجز عن ذلك كلفه الإسلام بالصوم، ونحن نوجه للأوربيين سؤالا لا مهرب منه: هل التعدد الذى أذن الإسلام به أفضل أم الزنى؟ إننى أسائل كل منصف صادق: هل المجتمعات الأوروبية تكتفى بالواحدة أم أن التعدد قانون غير مكتوب يخضع له الكثيرون؟ وثم سؤال آخر: هل الضرورات هى التى تدفع إلى التعدد الحرام أم أن الإثارات المتعمدة فى الاختلاط المطلق وفى تقاليد الرقص التى لا آخر لها من وراء هذا الفيضان من العلاقات الآثمة؟؟
وأختم هذا القول بسؤال حاسم: هل وعى التاريخ الجاد سيرة رجل أعف خلقا وأشرف ثوبا وأغير على الحرمات وأبعد عن الشبهات من محمد؟
هل حكى عن أحفال فى بيته رُصت فيها الموائد وعليها زجاجات الخمور، وأطايب الأطعمة، وأنواع المشهيات والهواضيم؟ لقد كانت عيدان الحصير تنطبع على جلده وهو نائم، أو جالس، فإذا ظفر مع أصحابه بالخبز واللحم عد ذلك من النعيم الذى يسأل الناس عنه يوم القيامة!! فهل هذا النبي الفارس المخشوشن الجلد يوصف بأنه من أصحاب الشهوات؟ ومن الذى يصفه؟ الذين ابتلاهم الله " بالإيدز" بعد ما ابتلاهم بالزهرى وغيره من أمراض الإسفاف والإسراف والسقوط!! امراتان.. نادرتان!! كانت أم المؤمنين " خديجة" سيدة ثاقبة البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها معدن نفيس، ولا يخدعها طلاء مزور! ولعل اشتغالها بالتجارة كون لديها هذه الملكة فالتجار من أعرف الناس بطوايا النفوس! وفى ميدان عملها التجارى عرفت خديجة محمدا - عليه الصلاة والسلام - وخطبته لنفسها، ولم يكن محمد مجهولا لدى جمهور العرب، كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحب، وكثيرا ما تكون زكاة الباطن كصباحة الوجه أساسا لتقدير عام أو عنوانا لا يختلف فيه اثنان.. لكن خديجة بعد زواجها ازدادت خبرة برجلها وأدركت أى أفق من الكمال قد بلغه! فلما أخبرها بما عرض له فى غار حراء قاست المستقبل على الماضى، وأقسمت أن مثله لا يضيع، وأنه يستحيل أن يخذل الله رجلا قد أفاء عليه خلال النبل والشرف كلها، قالت: "والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وتؤدى الأمانة ". إن الله لا يخزى فى الدنيا ولا فى الأخرى صاحب هذه السيرة! ذاك إنسان محصن من عدوان الشيطان (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا..) وخديجة من سروات قريش، أى من قمة المجتمع العربى، وهى أول من آمن من النساء، لكن الإسلام دين عام ينتظم البشر أكابرهم وأصاغرهم، فإذا كانت أفئدة بعض الأغنياء تهوى إليه، فإن جماهير من الفقراء تدخل فيه وتستبشر به، السادة والعبيد جميعا لهم مكان واحد فيه، كأبو بكر المرموق يعتنقه، وبلال المملوك يعتنقه، ثم يجىء عمر العظيم فيقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا!! لا طبقات فى هذا الدين، ولكن أخوة عامة، وإذا كانت خديجة أول من آمن، وهى من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استشهد " سمية " أم عمار وهى من البيوتات المستضعفة التى لا يؤبه لها. واختبار الله لعباده فنون، إنه يختبر بالشهرة والخمول وبالثروة والعدم وبالصحة والسقام، والمهم هو الآخرة. اهـ (المرأة في الإسلام. ٢٣ - ٢٦)