لكنّنا نسجلُ هنا كلامَ المجرمِ البذيء، ليعرفَ الإِخوةُ القُرّاءُ إِجرامَ
المجرمِ وقلةَ أَدَبِه، وهو الذي يَظهَرُ بمظهرِ الموضوعيِّ المحايِد، والباحثِ
المنصف.
قال - فَضَّ اللهُ فاه، وشَلَّ يَدَه -: " اتفقَ جميعُ المفَسِّرين على أَنَّ محمداً
قال هذه العبارةَ في زينبَ بنتِ جحش.
وكان قد زَوَّجَها لزيدِ بنِ حارثة، وهو ابنُه بالتَّبَنّي..
وفي ذاتِ يومٍ أَتى محمدٌ زيداً لحاجَة، وأَبصرَ زينبَ في دِرْعٍ
وخمار، وكانتْ بيضاءَ وجميلةً وذاتَ خُلُق، من أَتَمِّ نساءِ قريش، ولم يكنْ زيدٌ في البيت، فوقعَتْ في نفسِ محمد، وأَعجبَه حُسْنُها، فقال: سبحانَ اللهِ مُقَلِّبِ القُلوب..
فلما جاءَ زيدٌ، ذَكَرَتْ له ذلك، ففطِنَ للأَمْرِ، واحتاط لنفسِه من
عواقِبه، وذهبَ لمحمد، وقال له: إِنّي أَريدُ أَنْ أُطَلِّقَ صاحِبَتي! فقال محمد:
ما لَكَ؟
أَرابَكَ منها شيء؟
قال: لا.
ولكنْ لشَرَفِها تتعاظمُ عَلَيَّ..
فقال محمد: أَمْسِكْ عليكَ زوْجَك، واتَّقِ اللهَ في أَمْرِها.
قالَ محمدٌ هذا خشيةً من الناس، لئلا يُعَيِّروهُ بِأَخْذِ زوجةِ ابنِه، وأَخْفى في نفسِه شهوتَه إِليها!!..
ولكن الفضلَ لجبريلَ، الذي أَنزلَ عليه أَلَّا يخشى الناسَ، ولْيجاهرْ برغبتِه في أَخْذِها من ابنه، وأَلا يكونَ لجميعِ المسلمين حَرَج إِذا أَخذوا نساءَ أَدعيائِهم، بعدَ أَنْ يَقْضوا منهنَّ مُرادَهم.
فكيفَ ساغَ لمحمدٍ أَنْ يَمُدَّ عينَيْه، ويَشْتهي امرأةَ زيدٍ، أَقربِ الناسِ إِليه؟
وكيفَ يَدَّعي في مجلسِ العربِ بغير ما في نفسِه، ويَسْتَعدي جبريل على زيدٍ
ليحرمَهُ من زوجته، لياخُذَها لنفسِه، وَبَدَلَ أَنْ يَندمَ ويَستغفرَ، يُسَبِّحُ الله ويقول: سبحانَ الله، مُقَلِّبِ القلوب؟
وهل يَليقُ بجبريل الطاهرِ أَنْ يُوافِقَ هوى محمد، ويجعلَ هذا الاغتصابَ سُنَّةً، ويَرفعَ الحرجَ عن جميع المؤمنين، إِذا ما أَتوا مثلَ هذه الفضائح؟!..
ولهذا المنطقِ الأَخلاقيِّ كانت زينبُ تَتَباهى على سائِرِ
نساءِ النبيّ قائلة: إِنَّ اللهَ تولّى إِنكاحي، وأَنتنَّ زوَّجكُنَّ أَولياؤكُنّ.. " (١) (٢).

(١) قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله - ما نصه:
وهناك شائعة أخرى من أخبث ما انطلق فى آفاق المعرفة الدينية، وأحق بالاحتقار! تلك هى رغبة النبى ﷺ المفاجئة فى الزواج من زينب بنت جحش كما يرجف الخراصون! والنبى عليه الصلاة والسلام أبعد العالمين عن هذا التطلع؟ ويستحيل أن يمر بخاطره هذا الوهم. والذى يظهر لى أن دسا يهوديا خفيا من وراء هذه الشائعة، يريد القوم ـ بعدما افتروا على نبى الله داود ـ أن يجعلوا بينه وبين نبينا شبها. وكان هذا الكيد قمينا أن يموت فى مكانه لولا حفاوة بعض الرواة بالغرائب دون وعى! ولولا أن بعض الكتاب لا يبالى بنسبة الأخطاء أو الخطايا إلى الكبار كى يعطى العذر لنفسه ولغيره فى ارتكابها. والخلاصة الصحيحة للقصة أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يحب متبناه ـ سابقا ـ زيد بن حارثة، وكان معجبا بخصائصه النفسية والعقلية، ويراه سيدا قائدا، وأهلا للإمارة والإدارة فى السلم والحرب وقد ولاه قيادة جيش مؤتة وولى ابنه من بعده قيادة الجيش المتوجه إلى الرومان، وذكر أن ذلك عن جدارة لا عن محاباة. ومن إعزاز رسول الله ﷺ لزيد أنه اختار له ابنة عمته زينب ليتزوجها، وكان يعتقد أن زينب ستكشف خلال زيد وتستريح إليه وتسعد. إن فؤاد زيد من الملوك، وإن كان قد جىء به رقيقا إلى مكة، مخطوفا من أسرته وبيع كما بيع يوسف الصديق من قبل وذاك لا يضيره. لكن زينب قبلت هذا الزواج مرغمة، كان أملها، وهى من ذؤابة قريش، أن تتزوج كفئا لها فى النسب وما عساها تصنع إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد ضغط عليها وعلى أخيها؟ وشعر زيد بأن امرأته تراه دونها، فثار إباؤه، واكفهر الجو فى البيت الذى سعى الرسول صلى الله عيه وسلم فى بنائه.
ومع تدخل الرسول عليه الصلاة والسلام الكثير لإصلاح ذات البين، وحرصه على بقاء الزوجية فإن الفجوة لا تزيدها الأيام إلا اتساعا. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجب لنفور زينب من شاب ماجد عظيم، ويقول: سبحان مقلب القلوب. وفى ساعة شموخ وغضب طلق زيد امرأته، واستعلن الفشل الذى كان الرسول ﷺ يداريه.. لقد حار: ماذا يصنع؟ ثم فوجى بأن الله يطلب منه أن يتزوج هو نفسه زينب! وفزع لهذا الطلب وتمثل أمامه كلام الناس وهم يقولون: تزوج محمد امرأة ابنه ـ أى متبناه ـ وبدلا من أن ينفذ مراد الله منه تراخى! بل ذهب إلى أبعد من ذلك وقال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله.. أى راجع زوجتك. بيد أن الوحى نزل حاسما يطلب من الرسول صلى الله عيه وسلم قبول الأمر الواقع، وإقرار الطلاق الذى تم وتنفيذ الأمر الإلهى الذى صدر إليه بالزواج من زينب بعد انقضاء عدتها فلا معنى لإخفائه ولا معنى للوجل من كلام الناس، فشأن الأنبياء ارتبط بالخالق لا بالخلق.. نعم ما يجوز هذا الإخفاء بعد أن علم مراد الله بوضوح. ونحن نفهم سر الألم الذى خامر قلب النبى عليه الصلاة والسلام لفشل الزواج الذى أراد به إسعاد زيد، ونفهم كذلك سر القلق الذى استولى عليه لما صدر إليه الأمر بالتزوج من امرأة ابنه ـ أو بالتعبير الصحيح ـ متبناه. وشاء الله أن يتولى هو سبحانه هذا العقد كى يبطل قانون التبنى الذى شاع بين العرب. وتفسير الآيات الواردة فى سورة الأحزاب يتضح كل الاتضاح بعد هذا الشرح. ولكن بعض المغفلين قال: دخل رسول الله ﷺ على زينب فجأة وهى عند زيد فأحبها من أول نظرة كما يقول مؤلفو الأغانى! وقال: " سبحان مقلب القلوب "! وأن ما كان يخفيه هو التدله فى حبها. وهذا كلام بادى الكذب والإسفاف، فإن زينب بنت عمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يعرفها جيدا عندما زوجها زيدا، فما هذا الحب المفاجئ إنه خيال سمج. وكلمة " سبحان مقلب القلوب " قيلت فى التعليق على كره زينب لرجلها الجدير بالقبول! كما أوضحنا آنفا. وتسويف الرسول صلى الله عيه وسلم للزواج منها بعدما طلقها زيد كان كرها لهذا الزواج وخشية من أقاويل الناس، ولو كان الأمر إليه ما تزوجها قط. غير أن القضاء الإلهى أعلى وأحكم، فعوتب النبى عليه الصلاة والسلام على تريثه أو تردده.
ونزل قرآن يلومه على ذلك! قالت عائشة: لو كان رسول الله ﷺ يكتم شيئا من الوحى لكتم هذه الآيات: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا). فأين مكان الغرام، والعشق فى هذا السياق الصارم؟ على أن الله تبارك وتعالى ـ وهو الخبير بالعباد ـ واسى نبيه ﷺ بعدما اجتاز هذه المحنة البشرية عظيما جليلا، فمدحه مدحا لم يذكر مثله فى سورة أخرى فقال له: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا). ثم قال فى أعقاب قصة زينب والزواج الذى نقلها بعد إلى أمهات المؤمنين: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). ومع هذه الحقائق العلمية فإن بعض الكتابات المعاصرة عن أزواج النبي ﷺ تتحدث عن عشق أخذ بمجامع القلوب (!) لأن للشائعات، أو للأساطير المروية سوقا بين أهل الغفلة. وما أشد مصاب الإسلام من أولئك الرواة البله. اهـ (علل وأدوية. ص: ١٠٠ - ١٠٢)
(٢) وجاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التى جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد فى هذه - المسألة وفى موضوع الزواج بزينب حيث تقول:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (٦).
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم) (٧).
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً) (٨).
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول ﷺ من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبنى من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة فى المجتمع الجاهلى الذى كانت عادة التبنى أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير فى بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهى به ضراتها وتقول لهن: " زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سمَوات " (٩).
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته فى تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا - وهى الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه - عند الزواج بها - كان مولىً للرسول ﷺ أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو - وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد فى عرف المجتمع المكى كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال - كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذى لا يمثل حُلم من تكون فى مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ فى نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول ﷺ يشكو زينب إليه كما جاء فى البخارى من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل ﷺ يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله] (١٠) قال أنس: لو كان النبى كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول ﷺ كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول ﷺ - كما سبقت الإشارة - وهو الذى زوجها لمولاه " زيد " ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛
وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات فما كان يمنعه - إذًا - من أن يتزوجها من البداية؟! ؛ ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدرى شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين فى قضية إبطال عادة " التبنى " التى كانت سائدة فى المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التى تعلقت بالموضوع فى سورة الأحزاب.
أما الجملة التى وردت فى قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (١١). فإن ما أخفاه النبى ﷺ هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب - يومًا ما - ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زو


الصفحة التالية
Icon