ووقفَ أَمامَ قولِ الله - عز وجل - (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (١)، وقول الله - عز وجل -: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
وقول الله - عز وجل - (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥).
وقد أَخَذَ الفادي المجرمُ هذه الآيات ِ على ظاهِرِها، وجَعَلَها إِدانةً
للنبيِّ - ﷺ -، وشاهِدَةً على أَنه يُذنبُ ويُخطئُ ويَعصي.
وقالَ مُعَلّقاً عليها: " ونحنُ نسأَلُ: هل يَصِحُّ الادِّعاءُ أَنه شَفيعٌ وهو نفسُه
مُذْنِب؟! " (١) (٢).
من المتفقِ عليه عند المسلمين أَنَّ اللهَ عَصَمَ رُسُلَه وأَنبياءَه من الوقوعِ في
الذنوبِ والمعاصي، ولم يَجعلْ سُلْطاناً للشيطانِ على أَحَدٍ منهم، فلم يَصْدُرْ
من أَحَدٍ منهم معصيةٌ أَو ذَنْب.
وعلى أَساسِ هذه الحقيقةِ نفهمُ الآياتِ السابقة، التي يَدْعو اللهُ فيها رسولَه - ﷺ - إِلى الاستغفارِ لذنبه.
ذَنْبُ الرسولِ - عليه السلام - ليس ذَنْباً حقيقياً، قائماً على فعلِ المعصية، وإِنما هو ذنبٌ معنوي يَقومُ على نوعٍ من تَرْكِ الأَوْلى، والسهوِ والغفلةِ والنسيان، الذي لا يُؤَدّي إِلى تَرْكِ واجبٍ أَو فعْلِ مُحَرَّم.
قد يفعلُ الرسولُ - ﷺ - خِلافَ الأَوْلى، فيعاتبُه الله، وقد يَمُرُّ بحالةٍ من السهوِ اليسير أو الغفلةِ البسيطة، فيتداركُه الله، وهذا نوعٌ من التقصير، يَستدعي أَنْ يستغفرَ اللهَ منه، ليبقى - ﷺ - في كاملِ تَأَلُّقِهِ وارتقائِه.
وقديماً قيل: حَسناتُ الأَبرارِ سيئاتُ المقرَّبين.
إِنَ استغفارَ الرسولِ - ﷺ - وتوبتَه نوعٌ من أَنواعِ ذكْرِه لله، وعلى هذا قوله - ﷺ -: "إِنّه ليُغانُ على قلبي فأَتوبُ إِلى الله وأستغفرُه في اليومِ مئة مَرَّة ".
استغفارُه للهِ صورةٌ من صُوَرِ ذِكْرِه وشُكْرِه له.

(١) قال الفخر الرازي ما نصه:
لم يكن للنبي ﷺ ذنب، فماذا يغفر له؟
قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها: المراد ذنب المؤمنين ثانيها: المراد ترك الأفضل ثالثها: الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد، وهو يصونهم عن العجب رابعها: المراد العصمة، وقد بينا وجهه في سورة القتال.
المسألة الرابعة:
ما معنى قوله ﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ؟ نقول فيه وجوه أحدها: أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها: ما تقدم على الفتح، وما تأخر عن الفتح ثالثها: العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها: من قبل النبوة ومن بعدها، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة، وفيه وجوه أُخر ساقطة، منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر مارية، وما تأخر من أمر زينب، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام. اهـ (مفاتيح الغيب. ٢٨ / ٦٨).
(٢) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
٦١- محمد ﷺ مذنب كما فى القرآن
الرد على الشبهة:
أخذوها من فهمهم الخاطئ فى مفتتح سورة " الفتح ": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا).
فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!
وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء ﷺ كتاب كبير مفتوح استوفى فيه كُتَّاب سيرته كل شىء فى حياته. فى صحوه ونومه وفى حربه وسلمه، وفى عبادته وصلواته، فى حياته مع الناس بل وفى حياته بين أهله فى بيته.
ليس هذا فحسب بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه ﷺ وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال ﷺ كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته ﷺ بالصوت والصورة..
ثم جاء القرآن الكريم فسجل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
ثم لخص القرآن مجمل شمائله ﷺ فى قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).
أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذى بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء فى سورة الأحزاب فى أمر الزواج بزينب بنت جحش والذى كان القصد التشريعى فيه إبطال عادة التبنى من قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً).
أقول: مع أن سيرة محمد ﷺ هى كتاب مفتوح لم يخف التاريخ منه شيئاً بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه ﷺ مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له ﷺ ذلةً ولا ذنبًا فى قول أو عمل.
أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا أنه " مذنب "؟ !!!
ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد ﷺ على شىء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتى كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد ﷺ - كما ادعيتم - من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.
ونقف أمام الذنب فى منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هى عصمة جميع أنبيائه وفى قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقره ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفى الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا فى رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.
فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته ﷺ ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية - لا ما تحدده أعراف الناس.
ومع هذا كله فإن سيرة محمد ﷺ قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به ﷺ من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.
أفبعد هذا لا يستحى الظالمون لمحمد ﷺ والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!!
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). اهـ (شبهات المشككين)


الصفحة التالية
Icon