في الشتاء، ومن المعلومِ أَنه لا يَكونُ على النخلِ بَلَحٌ ولا تَمْرٌ ولا رُطَبٌ في
الشتاء، لأَنَّ البلحَ ينضجُ في الصيْف، وقد يَستغربُ بعضهم وُجودَ رُطَبِ على النخلةِ التي لجأَتْ مريمُ إِليها!.
والراجحُ أَن اللهَ أَثمرَ النخلةَ إِثْماراً مُعْجِزاً، إِكراماً لمريم، مثلَ ما أنبعَ
لها عينَ الماء، فمن المتفقِ عليه أَنَّ النخلةَ لا تُثمِرُ في الشتاء، ولكنَّ اللهَ جَعَلَ
تلك النخلةَ تُثمر، وجَعَلَ تَمْرَها رُطَباً، واللهُ سبحانه فَعّالٌ لما يُريد.
واعترضَ الفادي لغَبائِه على قولِه تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦).
وحملَ الصومَ في الآيةِ على الصيامِ المعروف، الذي هو الإِمساكُ عن الطعامِ والشراب.
ولذلك تساءَلَ بغَباء: " فأينَ الصومُ وهي الآكلةُ الشاربةُ المتكلمة؟ ! ".
الصومُ هنا ليس بمعنى الإِمساكِ عن الطعام والشراب، وإِنما هو بمعنى
الإِمساكِ عن الكلام، وهو ما تُفَسرُه بقيةُ الآية: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)..
فصومُها بامتناعِها عن تكليمِ أَيّ إِنسان.
وهي لم تنطقْ بهذه الجملة: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) بلسانِها، إِذْ إنها لو نطقَتْ بها لما كانَتْ صائمةً عن الكلام..
وإِنما كانَتْ توحي للذي تراهُ بإِشاراتِ يَدَيْها ومَلامحِ وجْهِها، بحيثُ يَفهمُ منها أَنها صائمةٌ عن الكلام..
واعتبرت الآية ُ هذه الإِشاراتِ المفهمةَ قَوْلاً: "فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي).
ولماذا امتناعُها عن الكلام؟
لأَنها في موقفِ تُهْمَة، ومهما تَكَلَّمتْ فلن يسمعوا لها.
ولقد أَنطقَ اللهُ وَليدَها ليُدافعَ عنها.
ولذلك لما وَصَلَتْ قومَها، وفوجئوا بالغلامِ على حِضنِها، ولاموها مُتَعَجّبين، لم تَتكلمْ بكلمة، وإِنما أَشارتْ إِليه، فتكلَّمَ هو وسْطَ ذُهولِ المستمعين.
قال تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ).