الفائدة الرابعة من فائدة الْمَكِّيِّ والْمَدَنِيّ: بيان حكمة التشريع لأنه كما سيأتي أيضًا في الخصائص أن في الْمَدَنِيّ قد نزلت التشريعات عامة بيان تفصيلات العبادات الصلاة والزكاة والصيام إلى آخره وكذلك المعاملات، وأما في الْمَكِّيِّ فالأكثر فيه تقرير العقيدة وتأسيس القواعد العامة للتشريع وذكر الجنة والنار والقيامة إلى آخره، لماذا؟
لأنه كما قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان أول ما نزل تحريم الخمر ونحو ذلك لما آمن أحد، ولكن نزل ذكر الجنة والنار فَرَقَّقَ القلوب فكان أول ما يكون في سمع الكافر هو ذكر الجنة والنار لأنه يؤدي إلى ماذا؟ يؤدي إلى رقةٍ في القلب حينئذٍ يستجيب المخاطَب.
إذًا عرفنا فوائد هذا الباب من ثَمَّ اعتنى به أرباب علوم القرآن فصنفوا فهي تصانيف مفردة وذكره كثير كما هو في ((الإتقان)) و ((البرهان)) بتوسع، ما من سورةٍ في كتب التفسير إلا وتجد ذكرًا للمَكِّيِّ والْمَدَنِيِّ.
ما المراد بالْمَكِّيِّ والْمَدَنِيِّ؟
قال رحمه الله: (مَكِّيُّهُ ما قَبْلَ هِجْرَةٍ نَزَلْ والْمَدَنِيْ مَا بعدها). (مَكِّيُّهُ) الضمير يعود إلى القرآن، مَكِّيّ القرآن ما هو؟
اختلف فيه، اختلف في تحديد معنى الْمَكِّيّ أو المراد بالْمَكِّيِّ ومعنى الْمَدَنِيّ والمراد بالْمَدَنِيّ ولكن ثم قول مشهور عند أرباب التفسير وخاصةً المتأخرين ممن جاء بعد السيوطي رحمه الله تعالى ونحوه وهو ما ذكره الناظم هنا (ما قَبْلَ هِجْرَةٍ نَزَلْ) (ما) سورة كلها أو أعظمها (ما) هذا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على ماذا، ونفسره بماذا؟ ذكرنا فيما سبق أن القواعد العامة في هذه أنه يذكر مفسر (ما) الموصولية ما يعلم من السياق والقرائن والكلام هنا عن ماذا؟ عن السورة لأن نحكم على السورة كلها أو بعضها لأنه مَكِّيّ أو مَدَنِيّ فحينئذٍ نقول: (مَكِّيَّهُ ما) أي: سورة كلها أو أكثرها لماذا كلها أو كثرها؟ لأن الشأن هنا في معرفة الْمَكِّيِّ أو بالحكم بكون السورة مَكِّيَّة أو مَدَنِيَّة هو حكم الأغلب على ماذا؟
على معظم السور قد تكون السورة كلها مَكِّيَّة قد تكون كلها مَدَنِيَّة وقد يكون أكثرها مَكِّيَّة وفيها شيءٌ من الآيات الْمَدَنِيَّة هذا لا يُخرجها عن كونها مَكِّيَّة فإذا كان معظم السورة مَكِّيَّة نزلت في مكة أو نزلت قبل الهجرة حينئذٍ وجود بعض الآيات التي نزلت بعد الهجرة لا ينافي كونها مَكِّيّة لماذا؟
لأن الحكم بكونها مَكِّيَّة متعلقًا بأحد أمرين:
إما أن يوجد الأول أو الثاني، فإن وجد الأول فلا إشكال وهو كون كل السورة مَكِّيَّة كما هو الشأن في سورة الإخلاص مثلاً كلها مَكِّيَّة، وقد يكون أكثرها نزل قبل الهجرة ويكون في بعضها ماذا؟ ما هو نازلٌ بعد الهجرة وهو مَدَنِيّ حينئذٍ وجود بعض الآيات التي حَكم أهل العلم بكونها مَدَنِيَّة في سورة مَكِّيَّة لا تنافي بينهما لماذا؟
لأن متعلق الوصف والحكم بكونها مَكِّيَّة إما كل أو الأغلب وقد وجد أحدهما، وهذا يؤكد المسألة السابقة التي ذكرناها وهي أن ترتيب الآي توقيفي، وهذا هو الذي نُص عليه عند أهل العلم وأجمعوا عليه أن ترتيب الآيات آيات القرآن توقيفي بدليل ماذا؟