(ل)
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ب الله تعالى، وبرسوله محمد ﴿وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود. من هاد: إذا تاب ورجع إلى الحق، وهم قوم موسى عليه السلام ﴿وَالنَّصَارَى﴾ وهم قوم عيسى عليه السلام. قيل: سموا نصارى؛ لتناصرهم وتآلفهم على دينهم - وقت تسميتهم - وقيل: نصراني؛ نسبة إلى نصورية: بفتح النون، وضم الصاد، وكسر الراء وفتح الياء قرية بالشام ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ الخارجين من دين إلى آخر؛ من صبا: إذا مال. وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأنجم والكواكب. وقيل: هم قوم على ملة نوح عليه السلام؛ استمروا على إيمانهم به، فلم يقبلوا اتباع من أرسل بعده من الرسل ﴿مَنْ آمَنَ﴾ إيماناً حقيقياً كاملاً؛ من هؤلاء الذين آمنوا بمحمد، أو آمنوا بموسى، أو آمنوا بعيسى، أو آمنوا بنوح؛ من آمن منهم ﴿بِاللَّهِ﴾ وعظمته وقدرته ووحدانيته ﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ القيامة؛ وما فيها من عقوبة للعاصين، ومثوبة للطائعين ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ في دنياه؛ تقرباً إلى مولاه وذلك لأن الإيمان لا ينفع ولا يجدي؛ ما لم يكن مقروناً بالعمل الصالح ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي فلهؤلاء المذكورين جزاءهم على إيمانهم
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ العهد عليكم بالعمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الجبل. قيل: لما جاء موسى عليه السلام لبني إسرائيل بالصحف المنزلة عليه من ربه: أمرهم بالعمل بما فيها؛ فقالوا:
﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فرفع الله تعالى الجبل فوقهم؛ حتى صار كالظلة عليهم. فقال لهم موسى: إن لم تؤمنوا وقع عليكم وكنتم من الهالكين فآمنوا جميعاً ذعراً وخوفاً من الهلكة ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد ﴿وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ ائتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ بصيد السمك فيه؛ وقد نهيناهم عنه. والمقصود بالسبت: يوم السبت؛ ومعناه لغة: الراحة؛ لأنه يوم راحتهم؛ وكانوا قد أمروا بالتفرغ فيه للعبادة؛ فخالفوا ذلك، وخرجوا للاصطياد ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ أي كالقردة؛ في الخفة والحمق والفساد. أو مسخوا قردة على
-[١٣]- الحقيقة ﴿خَاسِئِينَ﴾ مطرودين


الصفحة التالية
Icon