﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ﴾ استتر واختفى ﴿سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ﴾ عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره كانت وسوسته بأن ﴿قَالَ﴾ لهما ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أي كراهة أن تكونا ضمن الملائكة المقربين ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ الباقين أبداً
﴿وَقَاسَمَهُمَآ﴾ حلف لهما على صحة ما يقول
﴿فَدَلاَّهُمَا﴾ أهبطهما من درجات الجنة الرفيعة العالية، إلى دركات الأرض الوضيعة السافلة ﴿بِغُرُورٍ﴾ أي غرر بهما وخدعهما؛ وما كانا يتوهمان أن مخلوقاً يقسم ب الله تعالى كاذباً ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾ التي نهيا عن الأكل منها ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ جعلا يلزقان ويشدان ﴿عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ قيل: هو ورق التين.
هذا وقد زعم بعض من لاقيت من المتكلمين أن قصة الأكل من الشجرة ليس على حقيقته؛ بل هو عن طريق المجاز: وقد أريد به الالتقاء الذي يتم بين الرجل وزوجه، وأن قول إبليس ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ هو خلود آدم وحواء بأبنائهما إلى يوم القيامة وقوله: ﴿وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى﴾ هو ملك الدنيا، والخلافة فيها؛ وأن الشجرة قد تكون على حقيقتها وأن ما تم بينهما كان تحتها وفي ظلها؛ واستدل على رأيه بما بدا لهما من سوءاتهما عند الالتقاء - المشار إليه بالأكل من الشجرة - وهو زعم مخالف لجميع ما بأيدينا من أقوال المفسرين؛ ولم يبلغ بعد حد الإقناع الذي يلزمنا بالقول به، والدعوة إليه
﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ بعصيانك ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾ خطيئتنا ﴿وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الهالكين وقد أراد تعالى بإيراد تلك القصة على هذا الوجه: أن يعلمنا كيف يخسر المعاند «إبليس» نفسه، ويوردها موارد الهلكة، وكيف ينجو المعترف بذنبه، اللاجىء إلى ربه «آدم» فقد ﴿اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾
﴿قَالَ اهْبِطُواْ﴾ انزلوا من الجنة ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ المقصود: آدم وذريته، والشيطان وقبيله؛ أو بعض ذرية آدم لبعضها أعداء ﴿وَلَكُمْ﴾ جميعاً ﴿فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ موضع قرار ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتع ﴿إِلَى حِينٍ﴾ وهو انقضاء الأجل
﴿قَالَ فِيهَا﴾ أي في الأرض ﴿تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ تبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء
﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾ يستر عوراتكم التي أراد الشيطان إظهارها ﴿وَرِيشاً﴾
-[١٨٢]- لباساً للزينة ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ الذي يقي الجسم مما يؤذيه من الحر والبرد، أو هو لباس الحرب وقيل: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾
الإيمان وخشية الله تعالى بدليل قوله تعالى ﴿ذلِكَ خَيْرٌ﴾ أي لباس التقوى - الذي يقي عذاب الله تعالى وغضبه - خير من كل لباس؛ و ﴿ذلِكَ﴾ اللباس الذي أنزلناه عليكم ليواري سوءاتكم ﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالة على وحدانيته؛ فمن المعلوم أن اللباس لا يعدو أنواعاً ثلاثة؛ كلها تدل على قدرته تعالى، ومزيد لطفه وإبداعه؛ فالصوف: من أشعار الأنعام وأوبارها، والقطن والكتان: مما تنتجه الأرض من خيراتها، والحرير: تنتجه وتنسجه حشرة من حشرات الأرض؛ بوحي من ربها، وإرشاد من خالقها؛ وجميع ذلك - من حيوان ونبات - مسخر من عند الله تعالى لو أراد منعه لامتنع؛ فتعالى المنعم المتفضل فما أروع عظاته، وما أبدع آياته


الصفحة التالية
Icon