﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ أي لا تكفروا بعد إذ أمركم بالإيمان وأقام على وحدانيته الدليل والبرهان، ولا تظلموا بعد إذ أمركم بالعدل، وأبان لكم مغبة الظلم، ولا تعصوا بعد إذ عرفكم جزاء الطائعين، وعاقبة المتقين وجماع القول أن الله تعالى أراد بما أمر به ونهى عنه: إصلاح العباد والبلاد؛ فمن ابتغى وراء ذلك: فقد بالغ في الفساد والإفساد ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً﴾ مبشرات ﴿بَيْنَ يَدَيِ﴾ أمام ﴿رَحْمَتِهِ﴾ المطر؛ وسماه رحمة لأنه سبب في الرخاء والخصب والنماء؛ وجميعها رحمة وأي رحمة ﴿بُشْرىً﴾ حملت الرياح ﴿سَحَاباً ثِقَالاً﴾ ممتلئاً ماءً ﴿سُقْنَاهُ﴾ أي سقنا السحاب بواسطة الرياح ﴿لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ جدب لا نبات فيه ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ أي بواسطة الرياح، أو بالسحاب ﴿الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ أي بالماء ﴿مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ التي يحتاجها الإنسان ﴿كَذلِكَ﴾ أي مثل إحياء الأرض بالثمار والنبات، وإخراجها للأرزاق والأقوات؛ بعد قحطها وموتها ﴿نُخْرِجُ الْموْتَى﴾ أحياء من قبورهم ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتذكرون بهذه الأمثال التي نضربها لكم؛ فتؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ الذي طابت تربته، وعذبت مشاربه ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ﴾ ثمراته وخيراته
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بقدرته وحكمته، وفي هذا إشارة إلى أن إخراج النبات والثمرات - ولو أن سببه صنع البشر رأي العين - لا يكون إلا بإذن الحكيم العليم، الخالق القادر ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ أي والبلد الذي خبثت تربته، وأسنت مشاربه ﴿لاَ يَخْرُجُ﴾ نباته ﴿إِلاَّ نَكِداً﴾ رديئاً مصاباً بالعاهات والآفات؛ وهذا مشاهد في وقتنا الحاضر؛ إذ أصيب الثمار والنبات بسائر ضروب المعاطب؛ وما ذاك إلا بجناية الخلق على أنفسهم: بنسيانهم الأعز الأكرم، المتفضل بسائر النعم، وانصرافهم عن إلههم ومولاهم ويصح أن يكون ذلك مثالاً للمؤمن والكافر؛ ويكون معنى قوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ أي أهله؛ وهو كقوله جل شأنه ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهلها ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ الذي يعمل أهله بجد واجتهاد
-[١٨٨]- في دينهم ودنياهم ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ﴾ أي ثواب إحسانهم وإيمانهم كثيراً غزيراً ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بتفضله وإحسانه؛ وهو الجنة، وأنعم بها من منة ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ أي الذي خبث أهله، وساءت أعمالهم، وكفروا بربهم؛ وركنوا إلى الكسل والخمول ﴿لاَ يَخْرُجُ﴾ نباته ﴿إِلاَّ نَكِداً﴾ أي ثواب أعمالهم النار وبئس القرار ويجوز أن يكون المراد بالبلد: الجسد.
وطيبه: أكل الحلال، والابتعاد عن كل ما هو حرام. ونباته: أعماله؛ تخرج كلها حسنة، مليئة بالطاعات، موصلة إلى الجنات والجسد الذي خبث بأكل الحرام، وارتكاب الآثام: لا يخرج عمله إلا سيئاً؛ موصلاً إلى النار، وغضب الجبار فكذلك بنو آدم: خلقوا من نفس واحدة - بل من طينة واحدة - فمنهم من آمن ب الله وكتبه ورسله؛ فطاب ومنهم من كفر ب الله وكتبه ورسله فخبث (انظر آية ١٧٢ من سورة البقرة) ﴿كَذلِكَ﴾ أي مثل هذه الأمثال التي نضربها، والآيات التي نسوقها ﴿نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ نوضحها ونبينها، ونكررها


الصفحة التالية
Icon