﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ همت بإمساكه وضمه المراد بهمه عليه السلام: ميل الطبع البشري، ومنازعة الشهوة الفطرية؛ لا القصد الاختياري. وهذا الهم مما يصح أن يكتب له به حسنة، لا أن تحسب عليه سيئة. وقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذا بما يتنافى وعصمة لأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿لَوْلا أَن رَّأَى﴾ وبرهان ربه: عصمته من الوقوع فيما يقع فيه عامة البشر. ولما كان البرهان: هو الدليل؛ كان برهان الله تعالى: دليل وجوده وقدرته؛ فأثبت الله تعالى قدرته بمنعه، وأثبت وجوده بالحيلولة بينه وبين الوقوع في الخطيئة أرانا الله تعالى برهانه، وعصمنا بقدرته، وحال بيننا وبين معصيته، وهدانا برحمته ﴿كَذلِكَ﴾ أي أريناه برهان وجودنا ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ﴾ الخيانة والزنا
﴿وَاسُتَبَقَا الْبَابَ﴾ جرى يوسف منها، وجرت وراءه لتمسكه؛ فأدركت ثيابه ﴿وَقَدَّتْ﴾ شقت ﴿قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ من خلف ﴿وَأَلْفَيَا﴾ وجدا ﴿سَيِّدَهَا﴾ زوجها ﴿لَدَى الْبَابِ﴾ عند الباب؛ حينما أراد أن يفتحه هرباً منها. فلما رأت زوجها أسقط في يدها، وحاولت الدفاع عن نفسها أمامه ﴿قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ «ما» نافية؛ أي ليس له إلا أن يسجن. فلما رأى يوسف ما أحاطته به الآثمة من إثم؛ شرع في الدفاع المشروع عن نفسه
﴿قَالَ﴾ إنني لم أراودها؛ بل ﴿هِيَ﴾ التي ﴿رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ قيل: تكلم صبي من أهلها؛ وكان في المهد، وقيل: هو ابن عم لها؛ كان وزيراً للملك، ومستشاراً له؛ قال: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ﴾ شق ﴿مِن قَبْلُ﴾ من أمام ﴿فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ من خلف
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾
وهو مما يؤكد كذبها وصدقه: التفت إليها و ﴿قَالَ﴾ لها ﴿إِنَّهُ﴾ أي الذي حصل من المراودة، واتهام البريء ﴿مِن كَيْدِكُنَّ﴾ أيها النساء ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ ثم التفت إلى يوسف، وقال له
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ الأمر الذي حدث فلا تذكره لأحد. ثم التفت إلى امرأته قائلاً ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ وبذلك وضح أنه استقر في ذهن العزيز - بعد أن رأى بنفسه ما رأى، وسمع ما سمع - براءة يوسف وخطيئة امرأته. وكان أقل ما يجب عليه وقتذاك: أن يحول بين لقائها به، ورؤيتها له: لكنه لم يفعل؛ ليتم الله تعالى ما أراده بيوسف، وما أراده له؛ فسارت بذكر قصته مع امرأة العزيز الركبان، وتناقلوا حديثهما في كل مكان
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ يا للذل والعار ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ خادمها ومملوكها ﴿عَن نَّفْسِهِ﴾ لتنال غرضها منه ﴿قَدْ شَغَفَهَا
-[٢٨٤]- حُبّاً﴾
أي مس حبه شغاف قلبها. وشغاف القلب: غلافه، أو حجابه، أو حبته، أو سويداؤه بقولهن؛ وسمي حديثهن مكراً: لأنه تم في خفية؛ كما يخفي الماكر مكره


الصفحة التالية
Icon