﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي على التبليغ ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي لا أطلب أجراً لي على التبليغ؛ إلا من شاء أن يتخذ طريقاً لمرضات ربه؛ فينفق من ماله، ويتصدق مما آتاه الله
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ هو قول: سبحانالله، والحمدلله قال «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ عليماً بها؛ فيجازيهم عليها ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أي عنه؛ والباء تكون بمعنى عن؛ إذا اقتضى السياق ذلك. ونظيره قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ أي عن عذاب. ومعنى «فاسأل به» أي اسأل عما ذكر من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش ﴿خَبِيراً﴾ أي خبيراً بذلك؛ وهو الله تعالى: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وقال بعض الأجلاء: «فاسأل به خبيراً» أي اسأل عن الرحمن «خبيراً» وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ وقد ورد اسم الرحمن في كتبهم؛ وقد كان المشركون أنكروا على الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الاسم الكريم عند نزول قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى﴾ وقد وصف الله تعالى ما حدث منهم بقوله جل شأنه:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ﴾ مستنكرين ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ ألست تزعم أن ما تدعونا إليه إلهاً واحداً؟ ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ﴾ ذكر الرحمن ﴿نُفُوراً﴾ على نفورهم، وكفراً على كفرهم
﴿تَبَارَكَ﴾ تعالى وتنزه وتقدس الله ﴿الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً﴾ وهي اثنا عشر (انظر آية ١٦ من سورة الحجر) ﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً﴾ يضيؤها؛ وهو الشمس ﴿وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ ينير الأرض عند طلوعه، ويهدي السائرين والمسافرين.
هذا وقد ولع أقوام باكتشاف القمر؛ ولم تقف أطماعهم عند حد النظر؛ بل أرادوا أن يلجوه، ويسبروا غوره، ويعرفوا ما وراءه. وزعم بعضهم أنه سيرسل صاروخاً يفجر به جزءاً من القمر؛ ليكون هذا التفجير طريقاً إلى اكتشافه.
وما رأينا فيما رأينا ولا سمعنا فيما سمعنا حمقا يعدل هذا الحمق ولا جهلا يوازي هذا الجهل! فإننا لو افترضنا جدلا أن الوصول إلى القمر بالطريق التي يرسمونها، ومن اليسر بالدرجة التي يتوهمونها، فهمل من الحكمة، وهل من السداد أن يحطم الإنسان ما يريد أن يكتشفه وينتفع به؟!
وماذا يكون الحال لو ثبت أن في هذه الكواكب سكاناً عقلاء، وأنت هؤلاء السكان قد بلغوا
وقوام البحث العلمي الصحيح: أن نبحث أموراً ثلاثة:
أولها: أن التحدي واقع على الإنس والجن معاً ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾.
ثانيها: أقطار السموات والأرض، ومدى هذه الأقطار، وكنهها ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ﴾
ثالثها: السلطان؛ الذي تستطيع أن تنفذ به الإنس والجن من أقطار السموات والأرض؛ متى توفر لهم ﴿لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ وهل يمكن توفر هذا السلطان أم لا؟
الأول: التحدي يجب أن يكون بأمر؛ ليس في طاقة المتحدِّي إتيانه.
وقد ثبت من القرآن نفسه: قول الجن «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً».
فوجب أن يكون التحدي: أبعد من لمس السماء، أو أن يكون اللمس غايته؛ لأنهم قد منعوا عنه بالحرس والشهب.
الثاني: أن مدى أقطار السموات والأرض؛ يستدعينا أن نستوفي المقاييس بين السماء والأرض؛ لمعرفة أقطارهما، والكواكب المتعلقة بالأرض، والمسخرة لخدمتها وخدمة سكانها؛ فالقمر: الذي وصلوا إليه، والمريخ والزهرة: اللذان يحاولون الوصول إليهما؛ بل المجموعة الشمسية كلها؛ بما فيها من كواكب، وأنجم ومجرات: كلها مسخرة للأرض ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾
-[٤٤٢]- من العلم ما بلغنا وأنهم قد رغبوا فيما رغبنا فيه، من اكتشاف بعض الكواكب القريبة منهم - كالأرض مثلا- فإذا بنا نفاجأ يوما ما بصاروخ موجه إلى الأرض من القمر أو سكان الزهرة أو المريخ، وإذا بنا في لحظة من اللحظات وقد طاحت القارة الأمريكية أو الأوروبية أو غيرهما من القارات، في سبيل استكشاف سكان بعض الكواكب للكوكب الأرضي
أليس في هذا من الحمق والخرق ما يكفي لأن نغل يد من يقول بذلك ويعمل في سبيله، وأن نلقي به في غياهب البيمارستانات، حتى يرتد إليه عقله، ويثوب إليه رشده
وإذا سرنا وراء السائرين، وقلنا مع القائلين: بأن الإنسان سيبلغ القمر لا محالة، وأنه سيسكنه ويستعمره في بضع سنين، فما الفائدة التي تعود على بني الإنسان من سكنى القمر أو سكنى بعض الكواكب؟ ولنفترض أننا قد وصلنا إليه الآن فعلا، فهل تقف مطامع الإنسان عند هذا الحد أو يشمر عن ساعد الجد، فيسعى للوصول إلى الزهرة فالمريخ - وقد طمع من الآن في ولوجهما، وبدأ في قياس أبعادهما، وطريق الوصول إليهما - وها نحن أولاء قد وصلنا إلى القمر وسكناه، وإلى المريخ فاستعمرناه، وإلى الزهرة فملكناه، فهل تقف المطامع إلى هذا الحد، أم تتصاعد إلى عطارد، فالمشترى، فزحل
-[٤٤٣]- وآخر المطاف قد يفكر الإنسان في ولوج الشمس؛ ليسبر غورها، ويكشف لثامها؛ ولم لا: ألم يتغلب على سائر الأجواء، ويتملك الأرض والسماء؟ فإن كانت الشمس قطعة من النيران؛ فإنه يستطيع حتماً مكافحتها بما أوتي من حذق وعلم؛ فليأخذ كل صاعد إلى الشمس آلة صغيرة مما أعد لإطفاء الحرائق؛ فيعيش في النيران، كما يعيش المنعم في الجنان
وإذا ملك الإنسان الكواكب واستعمرها - كما يزعم - فهل يقف عند ذلك؛ أم يقلب ناظريه إلى العرش والكرسي، وإلى الملك اللانهائي؛ فيطمع في معرفة حدوده وأركانه وتخومه؛ وكيف نشأ الكون؟ وكيف بدأ؟ وكيف صنع؟ ومن هو هذا الصانع؟ وأين هو؟ هلم إلى لقائه؛ بل إلى محاربته ألم ننكر وجوده؟ ألم نكفر بحقيقته؟ ألم نقل: لا إله إلا المادة، ولا خالق إلا الطبيعة، ولا رازق إلا السعي، وأن المخلوقات إنما خلقت من لا شيء، والموجودات وجدت من غير شيء؟ وها هو الكون قد جبناه، والملكوت قد حصرناه؛ فأين يوجد ما تزعمون أنه الله؟
-[٤٤٤]- فيا أيها ذا الأحمق الأخرق: لقد وصلت إلى درجة من الفهم؛ ما كنت لتعقلها لولا ما وهبك الله تعالى من عقل، ووصلت إلى درجة من العلم؛ ما كنت لتعلمها لولا هداية العزيز الأكرم، الذي ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فقد استطعت أن تقيس سرعة الصوت والضوء، وأن تحسب تنقلات الشمس والقمر في بروجهما، وتحديد زمن كسوفهما وخسوفهما؛ وشأن كليهما وتأثيره في الحيوان، والنبات، والجماد.
وقد أدركت - بما علمك الله تعالى - بعض القوانين الكونية، وكثيراً من الأسرار الطبيعية
كل ذلك قمين بهدايتك إلى خالقك وموجدك، وجدير بإنابتك له وتعبدك ولكنك أيها الإنسان - كشأنك دائماً - جحود كنود فقد جعلت هذه الفتوحات الربانية باباً لكفرك وتكذيبك، ومصدراً لإلحادك وعنادك؛ ولم تقل: جل الصانع، وتبارك الخالق بل قلت: ما أجمل الطبيعة وأبدعها أليست هي مصدر الكون، وأصل الحياة؟ وما الكون إلا وليد الصدفة، وما الإنسان إلا وليد الطبيعة
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؛ الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك اعلم أن الذي أدركته وملكته واستعمرته: لا يعدل قطرة من بحر ملك ربك الزاخر، وأن ما علمته من الكواكب، وما أدركته من صفاتها ومقوماتها؛ إن هو إلا ذرة في مجموعة من النجوم - لا تستطيع أن تحصيها ولو أضفت إلى عمرك أعمار النسور، وأضفيت على نفسك قوى الجبابرة والعمالقة - وهذه النجوم مجتمعة - ما عرفت منها وما لم تعرف - إن هي إلا ذرة في مجموعة أخرى؛ لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوهم؛ وهكذا هكذا بغير انتهاء
واعلم أنك - وقد استويت خلقاً، وأوتيت علماً وفهماً، وسلطك الله تعالى على ما هو أكبر منك جسماً، وأشد مراساً؛ من مخلوقاته - لو سلط عليك قليلاً من النمل لأهلكك، أو ريحاً من الرمل لأفنتك وها هو الميكروب الذي عرفته، وبما آتاك الله تعالى من علم اكتشفته: لو سلطه الله تعالى عليك لجعلك كالعصف المأكول؛ كما فعل بأصحاب الفيل
فيا أخي في الإنسانية، وعدوي في اللادينية: ثب إلى رشدك، وقف عند حدك، والزم أدبك؛ واعلم أن نفسك ليست بأخس من النعل، ولا بأحقر من الحديدة في حافر البغل؛ وهما لا يوجدان بغير موجد، ولا يكونان بغير مكون. فكيف توجد أنت - يا لابس الحذاء، وراكب البغل - بلا خالق، وتأكل بلا رازق، وتولد بلا مصور، وتتعلم بلا معلم، وتتربى بلا مرب، وتحفظ بلا حفيظ، وتهتدي بلا هاد، وتغنى بلا مغن؟ كيف يفوتك ذلك وأنت اللبيب الأريب؟ وقد أبان لك الله تعالى الطريقين، وهداك النجدين؛ فاحذر يا أخي من الوقوع في براثن الشيطان؛ إنه لك عدو مبين؛ وإني لك لناصح أمين
ومن عجب أن يتبرع أناس بأنفسهم، ويضحون بأرواحهم، ويطلبون أن يكونوا من بين المسافرين إلى الكواكب؛ كأن السفر إلى الكواكب قد أصبح بين عشية وضحاها حقيقة ثابتة واقعة لا محالة. ومثلهم في ذلك كمثل من سعى إلى حتفه بظلفه؛ فلن يبلغ الكواكب بالغ، ولن يسافر إليها مسافر فكما أن أجواء أعماق البحار والأنهار غير صالحة لسكنى بني الإنسان - مع صلاحيتها لسكنى كثير من الحيوان - فإن أجواء الكواكب لا تصلح لسكناه، أو لبقائه بضع دقائق على قيد الحياة؛ كما أن الأرض لا تصلح لحياة ساكني البحار، ولا ساكني الكواكب.
وهذا وقد قال الحكيم العليم - في معرض التعجيز والتحدي - ﴿يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ أي بقوة عظيمة قاهرة؛ وأنى لكم ذلك؟ ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ فإن استطعتم يا معشر البلهاء؛ أن تبلغوا الكواكب فابلغوها، وأن تصعدوا إلى النجوم فاصعدوا إليها؛ فقد سبقكم إلى ذلك فرعون؛ حيث قال لهامان: ﴿يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾ فما نالهما سوى الخزي والخذلان
وما فرعون وهامان بأكفر ولا أحمق منكم: فقد كذب بخالقه كما كذبتم، وأنكر إلهه كما أنكرتم؛ فأنتم في الغفلة سواء؛ كما أنكم في الكفر أشقاء؛ ولم يبق إلا أن تنزل بساحتكم الأرزاء، وبجسومكم الأدواء؛ ومآلكم جميعاً إلى النار، وبئس القرار
فيا أيها الناس استجيبوا لقول خالق الناس؛ واحذروا ما أعده لأمثالكم من نار ونحاس؛ واحفظوا على أنفسكم أموالكم وعقولكم؛ واعلموا أن استعمار الأنهار، وسكنى قاع البحار؛ أقرب إليكم من استعمار الكواكب وسكناها ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾