﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي الشام: باركنا فيها بالماء والشجر، والزهر والثمر ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ متتابعة؛ لا تنتهي من قرية حتى تبدو لك أخرى؛ ليستبين الفرق بين رضا الله تعالى وغضبه، وبين نعمته ونقمته ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا﴾ أي في هذه القرى ﴿السَّيْرَ﴾ فلا يكاد السائر يقبل في قرية؛ حتى يبيت في أخرى؛ فلا يحتاج إلى مزيد من الأمن والزاد؛ وهذا معنى قوله جل شأنه: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ من الخوف والفزع، والجوع والعطش؛ فأطغتهم الراحة، وأبطرتهم النعمة، ونزغ الشيطان في نفوسهم؛ وتحرك الكفر الكامن في قلوبهم
﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ ملوا الراحة، وطلبوا الكد والتعب ﴿وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بحرمانها من الثواب، وتعريضها للعقاب ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ يتحدث الناس بما حل بهم، ويعجبون من أحوالهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرقناهم في البلاد كل التفريق، وصيرناهم مضرباً للمثل؛ يقال: تفرقوا أيدي سبا، وذهبوا أيدي سبا ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ﴾ عظات ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشكرلله تعالى على أنعمه
﴿وَمَا كَانَ لَهُ﴾ أي لإبليس ﴿مِّن سُلْطَانٍ﴾ تسلط عليهم؛ ولكنهم ﴿نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ وما كان تسلط إبليس عليهم ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ﴾ علم ظهور ويعمل لها؛ فلا يبالي بالشيطان ووسوسته، ولا يعبأ بالنفس وهواجسها:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهم
﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ فليس بمستيقن حساباً، ولا ثواباً ولا عقاباً: فإذا بدت له فرصة كسب - من أي طريق - انتهزها، وإذا لاحت له بارقة لذة انغمس فيها، وإذا لوح له إبليس بما يسره اليوم ويضره غداً بادر إلى إجابته وطاعته؛ فأي شك في الآخرة أكبر من هذا الشك؟ بل وأي كفر ب الله أشد من هذا الكفر؟ ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ﴾ رقيب وعليم
﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم﴾ ألوهيتهم، وعبدتموهم ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ اطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم ضراً أو أن يلحقوا بكم خيراً فإنهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ أي لا يملكون وزن نملة صغيرة في ملك الله الكبير ﴿وَمَا لَهُ﴾ جل شأنه ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من هذه الآلهة ﴿مِّن ظَهِيرٍ﴾ من معين؛ بل هو وحده المعين الذي لا يعان عليه، المغيث الذي لا يغاث عليه
﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ بها، وارتضاه شفيعاً فيمن أراد بفضله أن يمنحهم
-[٥٢٤]- رفده، ويعفو عن ذنوبهم؛ لسابقة خير أتوها، ويد برّ أسدوها ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ أي كشف الفزع، وزال عن قلوب الشافعين والمشفوع فيهم الرعب؛ بالإذن في الشفاعة، أو بقبولها من الشافعين في المشفوع لهم ﴿قَالُواْ﴾ أي قال الشفعاء لبعضهم، أو قال الأنبياء - وهم الذين يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة - للملائكة الذين يبلغون أمر ربهم؛ قالوا لهم ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ في شأن شفاعتنا للعصاة من أممنا؟ ﴿قَالُواْ﴾ قال ﴿الْحَقِّ﴾ الذي ارتضاه وكتبه على نفسه ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ وقد أذن بكرمه وفضله لكم في الشفاعة ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ المتعالي فوق خلقه بالقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم؛ الذي كل شيء - مهما عظم - دونه