﴿ذلِكَ﴾ المذكور من أمر مريم وأمها، وزكريا وابنه ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ الذي غاب عن علمك وعلم قومك ﴿نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ آية لنبوتك، وبرهاناً على صدقك ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ في هذه العصور؛ حتى ترى ما فعلوا، وما فعل بهم؛ فتحكيه لقومك. ولكنا أطلعناك عليه من غيبنا الذي لا نطلع عليه إلا من ارتضينا ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ أطلعناك عليه ليؤمن بك من أنار الله بصيرته، ويهتدي بهديك من أراد الله هدايته ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ قبل ذلك عند ولادة مريم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾ ليرون ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ قيل: اختصم أهل مريم عليها السلام فيمن يكفلها؛ فاتفقوا على الاقتراع؛ وطريقته وقتذاك: أن يلقوا أقلامهم في النهر؛ ويحتمل أن تكون القرعة لصاحب القلم الذي يظل طافياً على الماء، أو الذي يكون رأسه إلى أعلى، أو أمثال ذلك
﴿يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ بعيسى عليه السلام؛ لأنه خلق بقول ﴿كُنَّ﴾ ﴿وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ أي ذا منزلة عالية في الدنيا، وعزة وكرامة في الآخرة
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ وهو ما يفرش للطفل؛ وكلامه في المهد معجزة له، وتبرئة لأمه مما افتراه عليها المفترون ﴿وَكَهْلاً﴾ أي ويكلمهم كهلاً. والكهل: الذي جاوز الثلاثين، وخطه الشيب. والمراد بذلك نفي ما ادعاه الكافرون من ربوبيته؛ فذكر تعالى أنه عليه السلام يدركه ما يدرك البشر من التغير والانتقال من الصغر إلى الكبر، ومن حال إلى حال
﴿قَالَتْ﴾ مريم ﴿رَبِّ إِنِّي﴾ كيف ﴿يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كسائر من يلدن
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ الكتابة التي يخطها بيده ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ العلم النافع؛ والمراد بها الشرائع والأحكام ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام؛ وقد كان معمولاً به حتى بعثة عيسى عليه السلام {
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي ﴿وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ﴾ الذي ولد أعمى ﴿وَالأَبْرَصَ﴾ وهو بياض يصيب بعض الجلد؛ فيجعله مشوهاً. وخصا بالذكر: لأن المبتلى بهما لا يبرأ منهما ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتي وقدرتي. قيل: إنه أحيا سامبن نوح؛ فكلمهم وهم ينظرون. وذهب بعض المفسرين المحدثين إلى أن المراد به إحياء موتى القلوب والنفوس؛ وهو تأويل فاسد، منكر لإحدى معجزات عيسى عليه السلام التي اختصه الله تعالى بها؛ وإلا فإن أكثر الصالحين يحيون موتى القلوب والنفوس ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أخبركم.
-[٦٦]- ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ قيل: إنه عليه السلام كان يقول لأحدهم: يا فلان لقد أكلت كذا في يومك، وادخرت كذا في بيتك؛ وذلك بغير تفكير، أو استنطاق لرمل أو أرقام؛ كما يفعل الدجاجلة. ولعل المراد أنه كان يعلمهم عناصر الأغذية وخواصها، وكيف يحفظونها ويدخرونها. وهو باب يدخل ضمن أبواب الأدوية والعلاجات: وقد تخصص فيها معجزة له عليه الصَّلاة والسَّلام


الصفحة التالية
Icon