﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ﴾ من الجدب، وآفات الزرع والثمار ﴿وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ من الأمراض والأوصاب والموت ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ هو اللوح المحفوظ. ما أصابنا: لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا: لم يكن ليصيبنا (انظر آية ١٥٦ من سورة البقرة) ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ أي من قبل أن نخلق الأنفس ﴿إِنَّ﴾ معرفة ﴿ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ هين؛ لا يصعب ولا يشق عليه أن يعلم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن
﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ﴾ من الأسى: وهو الحزن. أي أعلمكم الله تعالى بذلك لئلا تحزنوا ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ في الدنيا من ربح ﴿وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ الله تعالى منها.
هذا ومن المعلوم أنه ما من أحد يعقل: إلا ويحزن على ما يفوته، ويفرح بما يأتيه. ولكن المراد من الآية الكريمة: ألا يحزن حزناً مذهباً للثواب، ولا يفرح فرحاً موجباً للعقاب ولكن من أصابته مصيبة فجعل منها صبراً، ومن أصابه خير فجعل منه شكراً: كان جزاؤه الجنة ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ متكبر بما أوتي من الدنيا ﴿فَخُورٍ﴾ به على الناس
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بما آتاهم الله من فضله لا يكتفون ببخلهم الذي أهلكهم وأرداهم؛ بل ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وهذا مشاهد فيمن أعمى الله تعالى بصائرهم، وقضى عليهم بالحرمان من لذة السخاء، وفرحة الإعطاء، وكتب لهم الشقاء. فهم في شقاء دائم في دنياهم، وعذاب واصب في أخراهم ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ يعرض عن الإنفاق
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج الواضحات ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ الذي يوزن به. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام؛ وقال له: مر قومك يزنوا به. ويجوز أن يراد بالميزان: القانون الذي يحكم به بين الناس ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ﴾ أظهرناه؛ وذلك لأن من معاني الإنزال: الإظهار؛ يدل على ذلك إنزال القرآن ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ وهو بمعنى إظهاره: إذ أن القرآن الكريم قديم - صفة الموصوف بالقدم - ونزوله: إظهاره للناس ﴿فِيهِ بَأْسٌ﴾ قوة ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ وأي منافع فقد صار الحديد من ألزم لوازم الحياة، وإحدى الضرورات التي لا تستطيع أمة من الأمم أن تبني نهضتها ومجدها بما عداه: إذ منه تصنع القاطرات والطائرات، والسفن العظيمة التي تجوب المحيطات؛ وبغيره لا تكون الأسلحة على اختلاف درجاتها وأنواعها: من مدافع ودبابات وصواريخ وناسفات ذلك ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ علم ظهور للمخلوقات ﴿مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ ينصر ﴿وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ حال كونه تعالى غائباً عن بصره، حاضراً في بصيرته: ينصره ولا يبصره
وهذا الوصف ينطبق تمام الانطباق على أمة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام؛ فقد آمنا بالله
-[٦٧٠]- ورسله بالغيب، ونصرنا الله تعالى - بإعلاء دينه، والدعوة إلى توحيده - ونصرنا رسله بالإيمان بهم جميعاً. وكل ذلك من غير أن نرى ربنا، أو نطلب رؤيته بأعيننا؛ ومن غير أن نرى رسله تعالى، أو نسمع دعوتهم، ونشهد معجزاتهم؛ فاستحققنا بذلك أن نكون خير أمة أخرجت للناس؛ فللَّه الحمد على ما أنعم، والشكر على ما به تفضل


الصفحة التالية
Icon