﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ تفضلونها. ومعنى ما تقدم: قد أفلح من تصدق، وتذكر ربه فرحم الفقير؛ بل أنتم تفضلون الحياة الدنيا فتبخلون وما فيها من النعيم
﴿خَيْرٌ﴾ من الدنيا وما فيها ﴿وَأَبْقَى﴾ لدوام نعيمها. أما ما ترونه من نعيم الدنيا؛ فإنه صائر إلى الزوال والفناء
﴿إِنَّ هَذَآ﴾ أي ما تقدم من النصح الرباني، والإرشاد، والتذكير، والتحذير ﴿لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ التي نزلت قبل القرآن
﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ وذلك لأن التحذير من النار، والتبشير بالجنة، والتعريف ب الله تعالى، والدعوة إلى الإيمان به، والحث على طاعته؛ كل ذلك وارد في كتب الله، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
سورة الغاشية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ الداهية التي تغشى الناس بأهوالها وشدائدها؛ يعني يوم القيامة. أو هي النار؛ كقوله تعالى: ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾ والمعنى: هل علمت يا محمد حديث الغاشية؟ فإن لم تكن تعلم؛ فهاك حديثها، وحدثها
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ ذليلة
﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ أي وقع منها في الدنيا عمل، وأصابها فيه نصب؛ أي تعب. وقيل: إنها تعمل ما تتعب فيه يوم القيامة: كخوض النار، وجر السلاسل والأصفاد، ونحو ذلك. والأول أولى؛ لمقابلته مع قوله تعالى في وصف أهل الجنة ﴿لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ أي لأعمالها في الدنيا
﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ أي شديدة الحرارة؛ من أنى الحميم: إذا انتهى حره؛ فهو آن الضريع: شوك رديء ترعاه الإبل؛ فتسوء حالها. ويسمى الشبرق. و
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾ حسنة منعمة؛ ذات بهجة
﴿لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ لعملها في الدنيا فرحة، مطمئنة لما رأته من ثوابه
﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ بستان مرتفع. والعلو هنا: حساً ومعنى
﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ أي لا تسمع فيها فحشاً، ولا شتماً، ولا سباً
﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾ ليرى الجالس عليها ما خوله ربه من النعيم، والملك العظيم وهي مرفوعة قدراً ومحلاً
﴿وَنَمَارِقُ﴾ وسائد. وهو ما يسمى بالمسند والمخدة
﴿وَزَرَابِيُّ﴾ بسط فاخرة منقوشة ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾ مبسوطة
﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ﴾ نظر تأمل واعتبار ﴿إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ على هذا النحو العجيب، والوضع الغريب فانظر - يا رعاك الله - كيف أنها تبرك؛ ليستطيع الإنسان أن يضع عليها حمولتها عن قرب، ثم تقوم بما تحمل، بما ينوء بالعصبة أولي القوة. ثم تميزها بالصبر على الجوع
-[٧٤٧]- والعطش الأيام المعدودات. ثم بلوغها المسافات الطويلة. ثم اكتفاؤها من المرعى بما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. إلى غير ذلك من استعدادها الخلقي الذي يساعدها: فشفتها مشقوقة لسهولة تناول الكلإ أثناء المشي، ورجلها مفرطحة لئلا تغوص في الرمال فيعوقها ذلك على السير. فتبارك الذي أحسن كل شيء خلقه
وقد خص الله تعالى «الإبل» بالذكر: لأنها أفضل دواب العرب، وأكثرها نفعاً