وقالَ العلماءُ: "هناك حالةٌ أعقدُ من ذلك، هناك تركيزٌ دائمٌ، فهذه الأمُّ المرضِعُ تنتبهُ لصوتِ بُكاءِ ابنِها الرّضيعِ من بينِ أشدِّ الأصواتِ صخباً، فلا يوقِظُها إلى صوتُ ابنِها الرّضيعِ، قد يُغلقُ بابٌ، وقد يحدثُ ضجيجٌ، وهي نائمةٌ فلا تستيقظُ، فإذا سمعَتْ صوتَ ابنِها الرّضيعِ يبكي تهبُّ واقفةً"، فما تفسيرُ ذلك؟ تفسيرُ هذه الحادثةِ علميّاً صعبٌ جِدّاً، فهناك صوتٌ أشدُّ لم يوقِظْها، قالوا: هذه حالةٌ أخرى، إنها التركيزُ الدائمُ، أحياناً السائقُ له حساسيّةٌ عجيبةٌ للصوتِ الطارئ في سيارتِه، ما هذه الحساسيّةُ؟ هناك تركيزٌ دائمٌ على بعضِ الموضوعاتِ، فالأمُّ يوقظُها صوتُ ابنِها الرّضيعِ، وصاحبُ الآلةِ يوقظهُ صوتٌ غريبٌ في الآلةِ، هذه الظاهرةُ اسمُها الانتباهُ، ولولاها لَمّا أمكَنَنَا أنْ نفكِّرَ تفكيراً صحيحاً، الطلاّبُ في الصفِّ ينصرفون إلى أستاذِهم، والأصواتُ خارجَ الصفِّ لا تُحتملُ، بِفَضْلِ ما أودعَ اللهُ فيهم من خاصّةِ الانتباهِ.
على عكسِ ذلك، لو أنّ إنساناً يعملُ في معملٍ، ولو أنّ هذه الأصواتَ تُحدثُ فيه تنبيهاتٍ مستمرّةً لأصبَحَتْ حياتُهُ جحيماً لا يُطاقُ، لذلك يعتادُ صاحبُ الطاحونةِ على الاستيقاظ عند توقفِ الطاحونةِ مثلاً، هذه الظاهرة هي الاعتيادُ، وحتى هذه الساعةِ لا يعرفُ العلماءُ طريقةَ تثبيتِ هذه التنبيهاتِ الصوتيّةِ، وإخمادِها دون أنْ تصلَ إلى الدّماغِ، هؤلاء الذين يعملون في المعاملِ ذاتِ الضجيجِ العالي، هؤلاء الذين يعملون في المطاراتِ، يعملون في الطواحينِ، لهم بيوتٌ تطلُّ على شوارعَ مزدحمةٍ، كيف ينامون؟ هناك خاصّةٌ في الدّماغِ تثبّطُ هذه التنبيهاتِ وتخمدُها، ولا توصلُها إلى الدّماغِ مركزِ التنبّهِ، وهذه الظاهرةُ اسمُها الاعتيادُ، أيْ تجاهلُ المنبّهِ بعدَ مرورِ فترةٍ معيّنةٍ، على الرّغمِ من استمرارِه.
هاتان الظاهرتان في الدّماغِ لولاهما لأصبحَتْ حياتُنا جحيماً، قالَ الله عز وجل: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤].